الاثنين، 3 يناير 2011
ملخص الأدب العباسي
abuhidaya25@blogger.com
الشعر العباسي بين التقليد والتجديد
مقدمة:
شهد العصر العباسي أكبر نهضة ثقافية في تاريخ الحضارة الإسلامية، بتأثير العكوف على الثقافات المختلفة (فارسية، وهندية، ويونانية) وترجمتها، وانصهارها مع الثقافات العربية في بوتقة الإسلام الذي أصبح حضارة جديدة لتلك الثقافات.
وقد تأثر الشعر بهذه النهضة فتطور تطوراً ملحوظاً شمل الكثير من جوانبه، إلا أن تطوره لا يتفق والنهضة الشاملة التي أحاطت به، ولا يتلاءم مع الروافد الثقافية التي عب منها الشعراء ذوو الجنسيات المختلفة.
وربما أمكن إرجاع ذلك إلى سبب جوهري تتفرع عنه أسباب كثيرة، هذا السبب هو أن الشعر لم يُتح له أن يحيا حياة مستقلة، يتطور فيه التطور الذي تساعده عليه الظروف المحيطة به، لأن مبدعيه لم تُتَح لهم هذه الحياة، فظلوا يدورون في فلك الحاكم أو صاحب النفوذ، ومن ثم حُرموا من الحرية التي لا يزدهر الشعر إلا في ظلها، وجاء نتاجهم الأدبي صدى لما يريده المتبوع.
وكان لهذا أثره على الشاعر الذي جعلته الظروف تابعاً لغيره وجعلت فنه استجابة لما يريده هذا غيره، فليس من شك أن التراث الأدبي سيحتل مكانة عالية في تلك المجالس المعلنة للخلفاء، ومن ثم فلن يتاح للشاعر الاقتراب منها والتمتع بما تفيضه من خيرات، إلا إذا وضع عينيه على حماة اللغة وسدنتها الذين يحتلون الصدر فيها. ولذلك كانت هذه المحافظة الشديدة لدى الشعراء حتى غير العربي منهم لأنه خشى أن يتقدمه الشعراء العرب الأقحاح، سواء أكان ذلك ممن تصدر هذه المجالس التي يجب أن تظل العربية فيها قوية مزدهرة، أم في ذيوع شعرهم وجريانه على ألسنة الناس، ومن أجل ذلك كان حرصهم على التعمق في اللغة وسبر أغوارها، وانتقالهم إلى البادية لمشافهة الأعراب والمحافظة على الصورة المألوفة والمرجوة للغة، كما يراد لها عند علمائها الذين شعروا بالمكانة التي يتمتعون بها، فما كان منهم إلا أن بالغوا وتشددوا في المقاييس التي يزنون بها الشعر، واعتبروا "النموذج الشعري القديم" هو المثل الأعلى الذي ينبغي على الشاعر أن يحاكيه ويحذو حذوه، ونظروا إلى التراث نظرة تقديس تحول دون التطور المرجو للشعر.ونتيجة لهذا تباعدت المسافة بين الشاعر والانفعال بعصره والتعبير عنه. وذلك لسد معظم النوافذ التي تهب منها رياح التجديد.
ومن خلال الصفحات التالية سوف نحاول رصد بعض مظاهر التطور والتجديد في القصيدة العباسية، مقسماً لها في ثلاثة أبواب: الباب الأول سأتناول فيه الفنون والأغراض والباب الثاني موسيقا الشعر والباب الثالث الشكل والمضمون.
متمنياً من الله العلي القدير السداد والتوفيق في تناول هذا الموضوع، وبالله التوفيق،،
أولاً: الفنون والأغراض
ظل الشعر العباسي يدور في فلك الأغراض الشعرية المعروفة، مع تطوير فرضته ظروف الحياة، ومع تطرق لبعض الأغراض الشعرية الجديدة.
تطوير الأغراض القديمة
المديح:
يعتبر المديح من الأغراض التقليدية التي حظيت باهتمام عدد كبير من الشعراء، ويمثل كثيراً من خصائص الشعر الأندلسي، ويمكن تصنيفه ضمن إطارين عامين هما: الأول يتمثل في المدائح النبوية، أما الإطار الثاني فيتمثل في المديح الخاص بأفراد ينتمون إلى الطبقات المتميزة في المجتمع الأندلسي.
ويستبعد أن يكون الشاعر العباسي قد هدف من وراء ذلك إلى تجسيد الفضائل الإسلامية، ليحث الممدوح على الاتصاف بها، لأنه لا يمدح الخليفة –مثلاً- من حيث هو، وإنما يمدحه بوصفه خليفة للمسلمين وموضع آمالهم. فكأن الشاعر يرفع أمامه الشعارات التي تريدها الأمة في خليفتها، لعله يثوب إلى الرشاد.
وبذلك ظلت المدحة حافزاً للخليفة وللأمة على التمسك بالفضائل والأخلاق المحمودة، لأنها تحمل خصالنا وخصائصنا النفسية.
ونحن نستبعد هذا التصور للمدحة في العصر العباسي، لأن فيه تحميلاً للأمور أكثر مما تحتمل، وإتطاقاً لشعر المدح ولشعرائه بما نريده نحن أو نتمناه لا بما عليه الواقع! فالقضية من وجهة نظر الشاعر العباسي أبسط من كل هذا؛ هو يريد من الممدوح أقصى عطاء ممكن، فعليه أن يفتن في تجويد السلعة التي يقدمها إليه، بغض النظر عن مدى الزيف فيها، أو انطباقها على الواقع أو تناقضها معه.
ورغبة من الشاعر في إضفاء لمسات التجديد على مدحته، كان لابد أن يتطرق إلى الأحداث التي عاصرت الممدوح، وبخاصة تلك التي أسهم فيها. ومن هذه الناحية أصبح شعر المدح يقوم بما تقوم به الجريدة في العصر الحديث، واكتسب قيمة تاريخية فوق قيمته الأدبية. ومن هنا كانت كثرة الاستشهاد به الكتب التاريخية. ويمكن أن يون لهذه الأحداث في حد ذاتها مذاقها الإسلامي لدى الشاعر وإثاراتها الدينية لوجدانه.
ومن أبرز الشعر الذي تتضح فيه هذه الظاهرة، الشعرُ الذي مدح به الشعراء الأبطال والقواد الذين قادوا الجيوش الإسلامية في معاركها المظفرة ضد الأعداء. فقد أشادوا إشادة رائعة بكل معركة خاضوا غمارها. وكل حصن اقتحموه، وبذلك لم تعد قصائدهم مديحاً فحسب بل أصبحت تاريخاً أدبياً لما وقع في العصر من أحداث. وكتب التراث مليئة بمثل هذه القصائد ولعل من أبرزها بائية أبي تمام في فتح عمورية:
السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
فتح تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض في أثوابها القشب
تدبير معتصم بالله، منتقم لله، مُرتقبٍ في الله مرتغب
تلك القصيدة التي تكاد تكون ملحمة للبطولة، وتجسيداً للقائد الذي يهب نفسه فداء لأهداف أمته.
وقبل أبي تمام صور على بن جبلة بطولة "أبو دُلَف العجْليّ" قائد المأمون المشهور، بقوله:
المنايا في مقانبه والعطايا في ذرا حُجَره
وزحوف في صواهله كصياح الحشر في أَمَرِهْ
قُدْتَه والموتُ مُكتمِنٌ في مذاكيه ومُشتجره
صاغك الله أبا دلفٍ صيغة في الخلق في خيره
كل من في الأرض من عرب بين باديه إلى حضره
مستعير منك مَكرُمةً يكتسيها يوم مُفْتخرٍه
وفضلاً عن ذلك شعر الخلفاء منذ وقت مبكر بحاجتهم إلى تدعيم قواعد حكمهم، وإقناع المسلمين بأحقيتهم في الخلافة، وفضلهم على من عداهم من المنافسين. وكان الشعر خير وسيلة لتحقيق ما يريدون، وتبارى الشعراء في الإشادة ببني العباس، والإزراء بالعلويين المنافسين تلهفاً على عطايا الخلفاء المسرفة.
ولذلك فلن ندهش كثيراً إذا ذكرت الأخبار أن المهدي قد أعطى القائل "أبو دلامة" أربعة آلاف درهم، وبعد أن استحسن الخليفة شعره، علم أنه أنجب ابنة، فسأله: وماذا تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة؟ قال: تملأ هذه يا امير المؤمنين وأشار إلى ثياب معه جهزها لذلك. فقال: وما عسى أن تحمل هذه؟ قال: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير. فأمر أن تملأ مالاً. وبلغ ما فيها أربعة آلاف درهم.
ويدخل عليه سلم الخاسر فينشده:
أليس أحق الناس أن يدرك الغنى مُرجى أمير المؤمنين وسائله
لقد بسط المهديُّ عدلاً ونائلاً كأنهما عدلُ النبي ونائله!!
ثم ينشده مرة أخرى:
إن الخلافة لم تكن بخلافة حتى استقرت في بني العباس
شُدَّتْ مناكبُ ملكهم بخليفةٍ كالدهر بخلِطُ لينه بشماس
ومرة ثالثة يقول:
أفنى سؤال السائلين بجوده ملك مواهبه تروح وتغتدي
هذا الخليفة جوده ونواله نفدَ السؤالُ وجودُهُ لم ينفدِ
وكان مجموعة ما أخذه الشاعر على المدحات الثلاث خمسين ألف درهم! فتخيل ما يمكن أن تصله ثروة مثل هذا الشاعر في تلك التجارة الرابحة وبالفعل خلَّف كثير منهم ثروات طائلة ظلت تغري الأجيال التالية من الشعراء بالتكسب بشعرهم، وبيعه في سوق التملق والنفاق.!
وحتى لا يغضب هؤلاء المادحون اللغوين. حافظوا على السنن المتبع لقصيدة المديح في التراث الشعري التي قعدها ابن قتيبة فيما بعد، حاول أن يعلل لها.
ولعل من أهم ما لحق المدح من تطور في العصر العباسي أنه صار لوناً من الأدب السياسي، فأحيا هذا الأدب الذي ازدهر إبان العهد الأموي خلال احتدام الصراع بين المذاهب السياسية المختلفة. وكان ذلك استجابة للتطورات الجذرية التي حدثت.
ويلاحظ على هذا الشعر السياسي ميله إلى الإسراف والغلو، فقد يصل به الحد أن يبتعد بهم عن العقيدة الصحيحة، فرأينا "منصور التمري" يمدح الرشيد فيضعه في منزلة من يسير الكون وفق إرادته، يرفع من يشاء ويذل من يشاء.
أي امرئ بات من هارون في سخط فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أرديه أحلك الله منها حيث تتسع
إذا رفعت امرءاً فالله يرفعه ومن وضعت من الأقوام مُتَّضعُ
ومن هذا قول أبي نواس في العباس بن عبيد الله الهاشمي"
كيف لا يُدنيكَ من أملٍ من رسول الله من نفره؟!!
وثمة ظاهرة تجدر الإشارة إليها في شعر المديح هي تفرُّعه إلى أنواع شتى، أو ميله إلى التخصص، بحيث أصبح لكل ممدوح نوع يناسبه من المدح.
كذلك يلاحظ أن شعرالمدح قد اتجه اتجاهاً جديداً حيث مدح الشعراء مدنهم وفضلوها على غيرها.
وعلى الرغم من شيوع البناء التقليدي في قصيدة المدح ترك العصر أثره على كثير من شعره، فلم يتمسك المادح بهذه التقاليد وجدد في الشكل الفني بعد أن بالغ في التجديد في المضمون الشعري.
وكذلك نجد البساطة في الأداء والخفة في الوزن نلمسها في مدح أبي العتاية للمهدي فهو يقول فيها:
أتته الخلافة منقادة إليه تجرر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
ولو راغها أحد غيره لزلزت الأرض زلزالها
الهجاء:
كان التطور محسوساً في شعر الهجاء، الذي يعد الفن المقابل لفن المديح، ولعل السبب في ذلك أن الشعراء كانوا فيه أقرب إلى ذواتهم، فعبروا فيه عن مشاعرهم الساخطة، وذموا من ضاقوا به، أو من لم يحقق ما يريديون. فهم فيه مدفوعون بعواطفهم الشخصية، وقد حال ذلك بينهم وبين الافتعال الذي اضطروا إليه في كثير من شعر المديح.
وقد بالغ الشعراء في هذا الفن، حتى ليعد الهجاء السابق عليهم ذا شأن يسير في الإقذاع والفحش بالنسبة لنتاجهم الهجائي، فمهما بلغ الهجاء الجاهلي من العنف، ومهما انحدرت إليه النقائض من تنابز بالألقاب، فذلك شيء يسير بالنسبة ما وصل إليه الهجاء العباسي.
ولا شك أن لضعف الوازع الديني وانغماس الناس في العب من كئوس اللذات أثراً في بذاءة الهجاء والإقذاع فيه. والافتنان في اختراع معانيه الطريفة. فأبو نواس يهجو المفضل بن سيابة بالبخل:
أصبحت أجوع خلق الله كلهم وأفزع الناس من خُبْزِ إذا وُضِعا
خبز المفضل مكتوب عليه ألا لا بارك الله في ضيف إذا شبعا
إني أحذركم من خبز صاحبنا فقد ترون بحلقى اليوم ما صنعا
وقد كان للهجاء المقذع وقع شنيع على نفوس المهجوين، حتى لو كانوا من ذوي اللسان السليط. فعندما هجا حماد عجرد بشارا بقوله:
وأعمى يشبه القرد إذا ما عمى القرد
دنيء لم يرح يوماً إلى مجد ولم يغد
ولم يحضر مع الحضا ر في خير ولم يبد
ولم يخش لسانه ذم ولم يُرْجَ له حمد
بكى بشار من شدة وقع الهجاء على نفسه وإيلامه لها. ولما استكثروا عليه بكفاءه، حاول أن يعلل لذلك بآفته التي تحول بينه وبين رؤية خصمه. ثم سدد سهاماً مُصمِيةً لحماد، وطعنه في مقتل لم يتوقعه:
نهاره أخبث من ليله ويومه أخبث من أمه
ما خلق الله شبيهاً له من جنِّهِ طُرّا ومن إنسه
والله ما الخنزير في نتنه برُبْعه في النتن أو خُمسه
بل ريحه أطيب من ريحه ومسه ألين من مسه
وفي مقطوعة أخرى يرميه بالقيادة على زوجه، وفسقه وتجديفه: ما ذاك يا عجرد بيت الخمار رفيق فساق ومأوى دَعـار
عارٍ من الدين وليس بالعار
ويلاحظ على الهجاء اهتمام شعرائه بالتركيز على الانحراف الديني عند المهجو وشذوذه بل زندقته أحياناً، لأن الانحلال الخلقي الذي عمت بلواه أغراهم بتضمني هجائهم هذه الاتهامات الخطيرة وعلى الأخص الزندقة التي كان كثير من الخلفاء يعاقب عليها.
وخلال احتدام معركة الشعوبية، حاول كثير من الموالي الانتساب إلى أصل عربي، إمعاناً في إضفاء الموضوعية على ذمهم للعرب وذلك كان من المعاني التي اتجه إليها الهجاء في العصر العباسي، السخرية بالأدعياء الذين ينتسبون إلى أصل عربي وما هم بعرب. كقول بشار في أبي عمرو بن العلاء، وكان يُغمز في نسبه: أرفق بعمرو إذا حركت نسبته فإنه عربي من قوارير
الغزل:
خطا الشعراء بالغزل خطوات فسيحة في مجال اللهو والفجور، منساقين وراء الإباحية الزائدة والمجون العابث. بعد انتشار مجالس اللهو والشراب التي امتلأت بالقيان والمغنيات اللائي خلعن ثياب العفة، وغلب عليهن الفجور، وأحاطت بكل شاعر طائفة منهن، فإذا علمنا أن كثيراً من أعلام الشعراء الذين التفت حولهم الفاجرات عرف عنهم الإغراق في اللذة، والعبُّ من كئوس الشهوات، حتى لقد اتهموا في عقيدتهم، تصورنا الدرك الأسفل الذي انحدر إليه غزلهم الإباحي المستعر بالجشع الجسدي، والرغبة الحيوانية. انحداراً يساعد بينه وبين الغزل في التراث الأدبي المتقدم على العصر العباسي.
وبلغ من حدة هذه الموجة الماجنة، أن يشيع الاستمتاع بالغلمان والتغزل فيهم. تلك العادة القبيحة المزرية بكرامة الإنسان، والتي كانت شائعة بين الفرس، وعمت بلواها المجتمع العباسي على أيدي الفسدة من الموالي، ومن سار على دربهم من الإباحيين والمخنثين.
أي أن الغزل قد تحول في هذا العصر إلى دعارة وفجور واستجابات صارخة لأحط غرائز الإنسان.
ولن نطيل في عرض النماذج الكثيرة التي تجسد هذه الظاهرة، ويكفي أن ننظر إلى ما قاله أبو نواس في التغزل بغلام:
يا بدعة في مثال يجُوزُ حدَّ الصفات
فالوجه بدر تمامٍ بعينِ ظبي فلاةِ
مذكَّرُ حين يبدُو مؤنَّث الخلواتِ
وليس ما يهمنا الآن هو التعليل لتلك الظاهرة بأنها مظهر مألوف في الحضارات الكبرى أو أنها أثر مخ أثار بروز العنصر الفارسي. وإنما المهم هو ملاحظة تناول الشعراء لها، فقد نقلوا إلى "الغلمان" معظم الأساليب الغزلية التي كان يتوجه بها إلى المرأة، حتى ليصعب التمييز بين من يتوجه إليه الشاعر بالغزل لولا الضمير الخاص بالمذكر. وإذا كان هذا اللون من الشعر يمثل انتهاكاً صارخاً لقيم المجتمع من الناحية الموضوعية فإنه من الجانب الفني لم يضف كثيراً إلى التراث الغزلي السابق. فغدا لوناً من الشعر يمثل سمة للأدب العربي وقذى في عيون قارئيه. وكاد صوته الجهير يطمس الأصوات الغزلية المرتبطة بالقيم الحميدة.
وقد عادت الرسائل الغرامية إلى الظهور لدى ابن الأحنف، بل ولدى بشار في صورة أكثر تفصيلاً ودقة مما كانت عليه عند ابن أبي ربيعة:
يقول بشار في إحدى رسائله:
من المشهور بالحب إلى قاسية القلب
سلام الله ذي العـ ـرش، على وجهك يا حِبِّيَ
فأما بعدُ يا قُرَّ ة عيني ومنى قلبي
ويا نفسي التي تسكن بين الجنب والجنب
لقد أنكرت يا عبدُ جفاء منك في الكُتْبِ
واللافت للنظر أن هذا اللون من الغزل أنه اقتصر ابن الأحنف على "فوز" يحاول بشار أن يوهمنا أنه اقتصر أو كاد على "عبدة"، ولكن يبدو أن تلك اللحظات كانت نادرة في حياة بشار. لأن إجادة هذا اللون كانت تقتضي نموذجاً من الشعراء يختلفون عن بشار اختلافاً بيناً، إذ كان الواحد منهم ينأى بنفسه على الصراعات المحتدمة في العصر ويربأ بها عن الارتزاق أمام أبواب الخلفاء.
فالغزل من ناحية الشكل الفني كان انعكاساً أميناً لما طرأ على العصر من تطور حضاري، فاستخرج الشعراء للورود لغة يفهمها المحبون.
كذلك ابتعدت لغته عن اللغة الجزلة المعجمية، واقتربت من لغة الناس، وحاكت كثيراً مما يدور في واقع حياتهم.
الرثاء:
من الأغراض التي اتسع مداها في هذا العصر، فقد رثى الشعراء الخلفاء والقادة المشهورين، وأجادوا في تأبينهم، وكذلك انتشر لون آخر من الرثاء يتمثل في بكاء الأساتذة والعلماء كما فعل ابن وهبون تلميذ اللغوي الشهير ابن سيده، وتلميذ الأعلم الشنتمري حيث أعجب به بعد أن وفد إلى المعتمد بن عباد والتقى به وحينما توفي رثاه بحرارة من ذلك قوله:
اسمع أمير المسلمين وناصـ ـر الدين الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيراً عن رعيتك لم ترض فيها غير ما يرضيه
في كل عام غزوة تردي عدد الروم أم تفنيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفقاً حكم القضاء بكل ما تقضيه
متواضعاً لله مظهر دينه في كل ما تخفيه أو تبديه
وإلى جانب ذلك ازدهر لون آخر من هذا الفن يمكن أن نطلق عليه "الرثاء المذهبي" حيث كثرت نماذجه في المجتمع العباسي الذي حوى أحزاباً متعددة أهمها الحزب العلوي. وخلال المعارك المتصلة في الصراع بين الحكم العباسي والأحزاب المناوئة له، سقط كثير من الشيعة، فرثاهم الشعراء رثاءً يشف عن الصدق واللوعة المكتومة أمام توالي المحن على رؤوس العلويين.
وهناك لون طريف من الرثاء هو "رثاء الحيوانات الأليفة" كالقطط والكلاب. ولا ندري هل السبب في وجود هذا الرثاء هو الجو المترف المنعم الذي عاش فيه هؤلاء الشعراء، والذي دعاهم إلى التعبير عن مثل هذه المواقف.
الزهد:
نتج عن الإفراط في الشعر الماجن نشوء نزعة أخرى مضادة تجلت في شعر الزهد الذي راده أبو العتاهية، وتفرع منه شعر الحكمة وتهذيب النفس بضرب الأمثال وقص الحكايات. واللافت للنظر أن تلك النزعة المضادة لم يختص بها الشعراء الزاهدون، بل وجدناها لدى عتاة الماجنين والعابثين، في تلك الفترات التي يتأملون فيها عبثهم، ويعضون أصابع الندم على ما أضاعوه من عمرهم وفرطوا فيه، حتى فاضت ألسنتهم بالشعر الذي تفاجأُنا نسبته إليهم.
ومن قصائد أبي العتاهية:
الموت مِنَّا قريبٌ وليس عنا بنازح
في كل يوم نعي تصيح منه الصوائح
تُشجى القلوب وتُبكى مولولات النوائح
حتى متى أنت تلهو في غفلة وتمازح
والموت في كل يومفي زند عيشك قادح
فاعمل ليوم عبوس من شدة الهول قادح
ولا يغرنك دنيا نعيمها عنك نازح
وبغضها لك زين وحبها لك فاضح
الوصف: تطور شعر الوصف تطوراً ملحوظاً اختلف فيه كثيراً عن الوصف الجاهلي والأموي. نظراً الختلاف منابعه الحسية مما تقع عليه العين من مظاهر الطبيعة وآثار الحضارات المختلفة، والمعنوية، مما تفتحت عليه العقول من مدركات جديدة.
لقد أصبح وصف الرياض فرعاً يانعاً من فروع الوصف، وحين أقبل العصر الثالث صارت الزهريات من أوسع فنون الشعر، فلم تبق زهرة ولا ريحانة مما تنبت الرياض إلا أشبعها الشعراء وصفاً لها، وافتتاناً في تصويرها.
لقد تحولت خيام الصحراء إلى قصور شامخة، مفوفة بالرخام والبللور، ومحلاة بالذهب، ومحاطة بسياج من الحدائق الغناء، تتوسطها النافورات. ومثل هذا الشعر يعكس ما طرأ على العصر من مظاهر الحضارة ويغرف من معين الرفاهية ظلل الخلفاء العباسيين.
وقد سيطر الوصف على وجدان كثير من الشعراء وبخاصة البحتري الذي وجد فيه متنفساً لأشواقه الفنية. وتلاقياً مع نفسه الحساسة الشاعرة. ولذلك وجدناه في مديحه –وما أكثره في ديوانه!- لا يكاد يجد فرصة للهروب منه إلا تلقفها، حتى كاد ما في هذ المديح من الوصف يقترب مما يحويه من تعداد مآثر الممدوح. فهو في مدحه لصالح بن وصيف يعرج سريعاً على دجلة وما يحيط بشاطئيها من خضر المروج، وما تحمله من قصور عائمة تميلها الرياح يمنة ويسرة:
تريك اليواقيت منثورة وقد جلل النور ظهرانها
غرائب، تخطف لحظ العيون إذا جلت الشمس ألوانها
تسير العمارات أيسارها ويعترض القصر أيمانها
البحتري والعودة إلى المحافظة على عمود الشعر
الوصف:
كان هذا الفن على رأس الفنون التي أجاد فيها البحتري، ووصل به إلى مرتبة عالية من الإجادة. ولكن هذا الوصف يظل –في رأي بعض النقاد- وصفاً حسياً دلالتها المباشرة، وتعجز الصور عن حمل الدلالات الإنسانية؛ فموصوفاته تظل جامدة وألفاظه لا تشدنا إلى جو وجداني رحب يختلط فيه بعالم الحس، كما يفعل ذلك الشعراء الوجدانيون الذين يتخذون من الطبيعة مسرحاً يعرضون عليه خبايا نفوسهم.
ذلك أن وصف البحتري ليس كله تصويراً فوتوغرافياً، بل كثيراً ما يتجاوزه إلى خلطه بأحاسيسه وامتزاجه بها، أو بعبارة أخرى كان البحتري في وصفه يرى الأشياء رؤية خاصة تمر خلالها بمشاعره، وتمتزج بها، وتحمل أثراً من اهتزاز تلك المشاعر، فهو عندما يصف إيوان كسرى يتجاوز الوصف إلى تجسيد إحساسه وشعوره إزاء ما يصف، ففي تصويره لما في الإيوان من مناظر، فيها "أنو شروان" مرتدياً زيه، متقدماً جنوده يخوضوه المعركة ضد الروم –يبين تأثير ذلك على شعوره، فهو يكاد يرى الحياة تدب في هذه الصورة ويتخيل أن ما أمامه أجناد حقيقية من لحم ودم، يمد يده كي يراها ويلمسها:
فإذا ما رأيت صورة أنطا كية، ارتعت بين روم وفُرس
والمنايا مواثلٌ، وأَنُوشـ وان يُزجي الصفوف تحت الدرفس
في اخضرار من اللباس على أصـ ـفر يختال في صبيعةِ ورس
وعراكُ الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوى يعامل رمحٍ ومليحٍ من السنان بترس
تصف العين أنهم جِدُّ أحيا ء، لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي، حتى تتقراهم يداي بلمس
وهل نجد في دعم ما نحن بصدده أقوى من تلك القطعة الرائعة في وصف الربيع الذي بشر بمقدمه انبعاث الحياة وسريانها في شتى مظاهر الطبيعة، حتى غدت معرضً زاهياً للجمال، وعم البشر كل مظاهر الكون:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحُسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى أوائلَ ورد كُنَّ بالأمين نُوَّما
يفتقها برد الندى، فكأنه يبُثُ حديثاً كان قبل مُكتَّمَا
فمن شجر رد الربيع لباسه عليه، كما نشَّرْتَ وشْيَّا مُنَمْنَمَا
أحلَّ، فأبدى للعيون بشاشة وكان قذى للعينِ إذْ كانَ مُحرِما
ورَقَّ نسيمُ الريح حتى حسْبته يجيءُ بأنفاسِ الأحبَّةِ نُعَّمَا
ثانياً: فنون أدبية جديدة:
لا يقصد بالجدة هنا أن هذه الفنون الشعرية لم تكن كلها موجودة في التراث السابق على العصر العباسي؛ إذ أن كثيراً منها كانت بذوره موجودة قبل هذا العصر، لكنها نمت وتطورت واستوت على سوقها، وتحولت عن نشأتها الأولى إلى صورة متكاملة، وأنمتها العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية في ظل بني العباس. وإذا كان الشعر التعليمي –مثلاً- من الأغراض الجديدة في هذا العصر، فإن نزعة الشعوبية والشعر المتعلق بها، لم تكن سوى تطوير لشعر العصبية التي كانت تسود نزعة منها غيرها من النزعات، تبعاً لاختلاف الظروف، فهي في العصر الجاهلي عصبية قبلية، ثم وجدنا إلى جانبها في العصر الأموي عصبية أخرى كادت تغطي عليها هي العصبية السياسية والمذهبية، أما في العصر العباسي فقد خفت صوت هاتين العصبيتين، وعلا عليها صوت العصبية الجنسية التي نشأت عنها ظاهرة الشعوبية.
شعر السخرية والفكاهة:
فقد كان يُسرُ الحياة العباسية ورخاؤها لعند القمة المسيطرة مجالاً لانتعاش هذا الفن، حيث نزعت النفوس وسط هذه الحياة الصاخبة اللاهية إلى الإعجاب بأساليب الفكاهة التي تزيد المجلس بهجة وبهجاء.
فمن الشعر الفكاهي الساخر ما قاله دعبل عن ديك له طار من داره، فالتقطه بعض الظرفاء وأكله. فما كان من دعبل إلا أن شنع عليهم، خاتماً قوله بصورة هزلية طريفة:
أسر (المؤذن) صالح وضيوفه أسر الكمي هفا خلال الماقط
بعثوا عليه بنيهو وبناتهم ما بين ناتفة وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا خاقان، أو هزموا كتائب ناعط
والحقيقة أن هذا اللون هو الذي تظهر فيه مقدرة الشاعر وقدرته على التشخيص وصياغة صوره الفنية في أسلوب يتلقفه الناس فيرددونه، على حين أن الهجاء العادي لا يحتاج من الشاعر المتمرس أكثر من قاموس ملئ بالبذاءة والفحش.
وأخيراً نجد من ألوان السخرية لوناً يلجأ الشاعر فيه إلى تعداد الصفات التي يسخر منها في المهجو، دون ارتباطها بموقف يزيد من فنيتها.
الشعر التعليمي:
استحدث الشعراء العباسيون هذا اللون الذي لم تكن له أصول قديمة، وإنما دفع إليه رقي الحياة العقلية في هذا العصر، وأدى تنوع روافد الثقافة إلى ضرورة أن يحيط الأديب بقدر وافر منها، وظهرت الحاجة إلى وسيلة تيسر هذه الإحاطة، فكان أن لجأ الشعراء أوالنظامون إلى نظم بعض القصص المعروفة، كما خلفوا الكثير من المتون المنظومة في كثير من العلوم كالنحو والفقه والمنطق، فضلاً عن المواعظ التي ركزوها في حكم منظومة يسهل تداولها على اللسان واستقرارها في الذاكرة.
وكان لأبان بن عبد الحميد فضل إشاعة هذا اللون من الشعر، حيث تنوعت منظوماته، وشملت القصص والعلوم والسير. فنظم كتاب كليلة ودمنة واستهل نظمه بقوله:
هذا كتاب أدب ومحنه وهو الذي يدعى كليلة دمنه
فيه دلالات وفيه رشد وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله والسفهاء يشتهون هزله
وهو على ذاك يسير الحفظ لذُّ على اللسان عند اللفظ
ثم انتقل أبان من نظم مثل هذه الكتب الموضوعة إلى وضع الكتب المنظومة في التاريخ والصوم والصلاة وغير ذلك مما طلبه منه بعض رجالات البرامكة الذين أجزلوا له العطاء على نظمه لكليلة ودمنة.
والحقيقة أن عد مثل هذا النظم من الشعر فيه كثير من التجوز، فالشعر ليس "هو الكلام الموزون المقفى"، لأنه يتعامل مع اللغة بطريقة مختلفة تماماً عن هذا النظم التعليمي، ويعبر عن المشاعر المتصلة بوجدان الإنسان، ويعتمد على الصورة في تشكيل مضمونه، ويبتعد عن المباشرة والتقريرية، لأن جوهره هو الإيحاء، وهو في هذا كله يختلف تماماً عن كل تلك المنظومات.
الرثاء الذاتي أو الشخصي:
وهو عبارة عن وقفات حزينة زاد من تأثيرها، أن الشعراء رفدوها بثقافاتهم التي حصلوها من النهضة الفكرية التي شملت كل جوانب العصر، حتى دعتهم إلى أن يخلعوا الحياة على ما لا يعقل فرثوا المدن التي تنتابها الكوارث، والطيور والحيوانات التي أحبوها والرياض المقفرة التي طالما نعموا بها وهي فينانة يانعة.
تمجيد القيم الفاضلة:
يبدو أن الشعراء قد ملوا من كثرة إلصاق الصفات الفاضلة -كذباً أو صدقاً- بالممدوح، وعانوا من الافتعال الذي يتكلفونه في قصيدة المدح ولذلك خصوا كثيراً من الفضائل التي يمدحون بها بقطع شعرية مستقلة، فتحدثوا عن الكرم والحلم والحياء، والعفة والصبر، وكذلك وقفوا موقفاً مشابهاً من الصفات الذميمة التي تواردت في هجائهم.
ووجدنا فكرة التسامح والمسألة تشيع كثيراً وبخاصة لدى الشعراء الذين عرفوا بالزهد كأبي العتاهية، الذي يقول:
كم من سفيه غاظني سفهاً فشفيت نفسي منه بالحلم
وكفيت نفسي ظلم عاديتي ومنحت صفو مودتي سلمي
ولقد رزفت لظالمي غلظاً ورحمته إذ لج في ظلمي
الشعر الوطني:
يراد به الشعر الذي قيل في الوطن الذي نشأ فيه الإنسان مدحاً كان أو ذماً إشادة بما فيه، أو تحسراً على ما كان ينعم به. وهذا الفن الأدبي كان استجابة لتلك النقلة الحضارية الضخمة من الخيام ومضاربها والصحراء وهجيرها، إلى القصود المشيدة والحدائق والغناء، والعلائق الاجتماعية المتشابكة، وما إلى ذلك مما حملته تلك النقلة وأدى إلى الإحساس بالوطنية والشعور بالوطن.
إن الإنسان العربي لم يعد في العصر العباسي يحن إلى بيئة واسعة غير محددة المعالم كما تتمثل في شبه الجزيرة، بل أصبح حنينه منصباً على هذه المدينة، أو تلك، التي نشأ فيها، وتشابكت علاقاته الاجتماعية مع أهلها.
ولا يتسنى لنا ذكر شواهد على هذا النوع إلا تلك القصيدة التي قيلت في تصوير ما حل بالمدينة المنورة قالها الفضل ابن العباس العلوي، حين دخلها محمد وعلي ابنا الحسن بن جعفر ابن موسى بن جعفر (291هـ) فخرباها وعذبا أهلها يقول منها:
أخربت دارُ هجرة المصطفى البر فأبكى خرابها المسلمينا
قبح الله معشراً أخربوهـا وأطـاعـوا مشرداً معلـونـا
ثالثا:الاختراع في الأوزان والقوافي:
أوزان الشعر : لقد جدد الشعراء وخاصة المولدون في هذا العصر , ويمكن تقسيم ذلك إلى نوعين
-*أولهما : التجديد في الأوزان المأخوذة من البحور المعروفة الخليلية، بالقلب أو التحريف فما جاء بالقلب, المستطيل مقلوب الطويل وأجزاؤه " مفاعيلن فعولن " أربع مرات مثل :
لقد هاج اشتياقي غرير الطرف أحور *** أدير الصدع منه على مسك وعنبر
أما الثاني : ما جاء على أوزان غير أوزان البحور وهو فنون سبعة
-**ثلاثة لا يجوز فيها اللحن مطلقا وهي الدوبيت , والسلسلة, ثم الموشح
-**وثلاثة ملحونة دائما وهي الزجل والكان كان ثم القوما
**- وواحد كالبرزخ بين هذه وتلك يكون معربا وملحونا وهو (المواليا(
*- الدوبيت :
وهذا الاسم من كلمتين, احدهما فارسية وهي (دو) بمعنى اثنين والأخرى(بيت) العربية, وسموه كذلك لأنه لا يكون أكثر من بيتين, وأخذه العرب عن الفرس, ويسمى أيضا الرباعي لأن في البيتين أربعة أشطر, واقتبسه البغداديون ونظموا منه على أوزان أشهرها " فعلن متفاعلن فعولن فعلن " مرتين مثل :
- إن جئت ربا الحمى ولاحت نجد *** فاذكر ولهي وما جناه البعد
قد كنت أقاسي الصد حتى رحلوا **** يا ليتهم عادوا وعاد الصمد
-*السلسلة :
وهي من إختراعات البغداديين , ووزنه " فعلن فعلاتن متفعلن فعلاتان " مرتين، ومنه
يا معتدل القد إن صبري قد بان *** والدمع لخافي الغرام أظهر إذ بان
جددت شجوني وقد كحلت جفوني *** بالسهد فبيني وبين نومــي شتان
-*الموشح :
ونشأ أولا بالأندلس وانتقل إلى المشرق في عصر بني بويه , وهو ذو أوزان كثيرة منها " مستفعلن فاعلن فعيل " مرتين مثل
يا جيرة الأبرق اليماني *** هل إلى وصلكم سبيل
-*الزجل :
نظم العوام بالعامية على منوال الموشح , وليس هناك ضابط لأوزانه , ومنه :
الفراق نار والوصول جنة *** والخلائق بعضهم يعشق
ولهيب الهجر يتوقد *** والوصال م الملاح يشتق
*- الكان كان :
نظم اخترعه أهل بغداد واستعملوه في النصيحة والوعظ بحكاية كان وكان , ولذلك أخذ هذه التسمية , ووزنه واحد " مستفعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلن " وشطره الأول دائما أطول من الثاني , ومنه قول بعضهم :
يا قاسي القلب مالك *** تسمع وما عندك خبر
ومن حرارة وعظي *** قد لانت الأحجار
أفنيت مالك وحالك *** في كل ما لا ينفعك
ليتك على ذي الحال *** تقلع عن الإصرار
-*القوما :
نظم اخترعه البغداديون , ليغنوا به الناس في رمضان كي يقوموا للسحور ومنه قول بعضهم
يا من جنابه شديد *** ولطف رأيه سديد
ما زال برّك يزيد *** على أقـل العبيد
-*المواليا :
فقد نشأ على لسان جارية للبرامكة كانت ترثيهم به وتقول، يا مواليا وهو دون سائر الفنون يأني عاميا ويأتي فصيحا .
-*فمن عاميه قول بعضهم
حلف على كجاره أن يقاطعني *** وصد عني واقسم ما يطاوعني
كم ذا يصد وكم يرجع يصد عني *** إن كنت أنا المطلق لا يراجعني
ومن صحيحه:
يا طاعن الخيل والأبطال قد غارت *** والمخصب الربع والأمواه قد غارت
هاطل السحب من كفيك قد غارت *** والشهب مذ شاهدت أضواك قد غارت
-*قوافي الشعر :
حدث تطور في القافية , تماشيا مع التجديد الذي حصل في الأوزان إلا أنه إنحصر في القافية في المجالات التالية :
-*المزدوج :
وهو ما أقتصرت فيه التقفية في كل بيت على عروضه وضربه دون ما حولها من الأبيات والدافع لذلك القصائد العلمية الطويلة ,والمواعظ مثل مزدوجة أبو العتاهية ذات الحكم اشتملت على ( أربعة آلاف مثل) منها قوله :
لكل ما يؤذي وإن قل ألم *** ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله *** وخير ذخر المرء حسن فعله
ولبشر بن المعتمر مزدوجة في فضل على كرم الله وجهه على الخوارج يقول فيها عنه :
ما كنا من أسلافهم أبو الحسن *** ولا ابن عباس ولا أهل السنن
غر مصابيح الدجى مناجب *** أولئك الأعلام لا الأعارب
-*المشطر :
وهو أن تتحد القافية في اشطار القصيدة أربعة أربعة أو أكثر فيسمى مربعا أو مخمسا وهكذا كقول بعضهم في مشطر مربع يتغزل بقوله :
جار عليه حاكم الغرام *** فدق أن يدرك بالأوهام
فلو أتاه طارق الحمام *** لم يره من شدة السقام
*- المسمط :
وهو أن يأتي بأقسمه من قافية واحدة , وبعدها قسيم من قافية أخرى , على عدة أشكال منها :
غزال هاج لي شجنا *** فبت مكابدا حزنا *** عميد القلب مرتهنا
يذكر اللهو والطرب
ومن المثال الثاني :
توهمت من هند معالم الحلال **** عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصايف **** يصبح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف **** وكل مسف ثم آخر رادف
يا سحم من نوء السماكين هطال.
الشكل والمضمون:
للجاحظ عبارة مشهورة ودقيقة يقول فيها (الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير) وغنى عن القول أن الجاحظ لا يقصد بالصنعة هنا أن يتكلف الشاعر في أسلوبه، لأنه يكاد يلهم هذا الأسلوب وقت استغراقه في عملية الإبداع، وبعبارة أخرى فإن الشكل والمضمون ممتزجان تماماً ولا يمكن الفصل بينهما في نتاج الشاعر الموهوب، لأن العلاقة بينهما أوثق وأعمق إلى درجة لا تسمح لنا بالحديث عن مضمون بغير شكل يبرزه ويشف عنه، أو شكل دون أن يكون له محتوى ومدلول يعبر عنه.
ومن الطبيعي أن يختلف الشكل الفني في العصر العباسي عن التراث السابق عليه، تبعاً لاختلاف الحياة العباسية عما سبقها اختلافاً جذرياً، أدى إلى إدراك علائق جديدة بين الأشياء لم تكن موجودة أصلاً، أو توسع فيما كان منها موجوداً. وإلا فهل كان من الممكن أن يصف الشاعر الجاهلي حديث المرأة بقطع الرياض المتنوعة الأزهار!
ومن حيث الجانب اللفظي للشكل الفني وجدناه يتبلور في تلك الألوان البلاغية التي كانت تأتي عفواً في الشعر، والتي فصصها البلاغيون المتأخرون وأطلقوا عليها "علم البديع" ليزينوا به الكلام بعد استيفائه مطابقة الحال وأداء المعنى بالصورة الملائمة. على حين أن المتقدمين من العلماء والشعراء أطلقوا البديع على الطريف والمعجب في الأداء الشعري.
وقد أخذ الشعراء يتبارون في الإكثار من هذه المحسنات والعمد إليها عمداً. أو قل إنهم بدأوا في الفصل بين الشكل والمضمون أو بدأوا في التكلف.
والناحية الأخرى من نواحي الشكل الفني هي الناحية المعنوية التي تتمثل في الصورة الشعرية التي تؤدي بها التجربة الفنية.
القيم الفنية المستحدثة من ناحية المعاني والأخيلة :
استنباط الدقيق والجديد من المعاني : جال الشعراء في هذا الميدان جولات بعيدة المدى, ظهر أثرها في كلّ ما عالجوه من فنون الشعر حتى لقد تزاحم الكثير منها في القصيدة الواحدة تزاحما كان غير معروف .
ومثال ذلك قصيدة أبي الحسن الأنباري في أبي طاهر محمد بن بقية وزير عز الدولة بن بويه, فقد قبض عليه عضد الدولة حين انتصر على ابن عمه المذكور وقتله وصلبه, ومنها :
علو في الحياة وفي الممات *** لحق تلك إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا*** وفود نداك أيــــام الصلات
كأنك قائـــم فيها خطيبـــا *** وكلهم قيــــام للصـلاة
مددت يدك نحوهم احتفاء *** كمدهما إليهم بالهبــــات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن *** يضم علاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا*** عن الأكفان ثوب السافيـات
طائفة أخرى من المعاني الدقيقة التي تظهر عليها الجدّة مع دقتها كما قال بشار بن برد ينسب العشق إلى الأذن كالعين :
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة *** والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم **** الأذن كالعين توفي القلب ما كانا قال-ينسب هذا له ولغيره- في إهلاك ماله بعدوى كف ممدوحه :
لمست بكفي كفه أبتغى الغنى *** ولم أدر أنّ الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى *** أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
وقال ابن المعتز جاعلا تحكم الضيف بربعه أنفذ من تحكم آبائه على الأمم :
حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من *** حكم الخلائف آبائي على الأمم
فكل ما فيه مبذول لطارقه *** ولا زمام له إلاّ على الحرم
وقال بن الرومي يحل لنفسه عدم تغاضيه عن خطأ صديقه :
يا أبا القاسم الذي كنت أرجو *** ه لدهر قطعت متن الرجاء
أنت عيني وليس من حق عيني *** غض أجفانها على الأقذاء
وقال أبو تمام يذكر فضل الحاسد على المحسود :
وإذا أراد الله نشر فضله *** طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طيب عرف العود
ولقد كانت رغبة المحدثين في تدقيق المعاني حاملة لهم على استخراج المكنون وتجلية المستور , فجاءت لذلك لابسة ثوب الجدة والابتكار , ولعلهم لهذا كانوا إذا ألموا بقديم جعلوا لأنفسهم فيه ميزة أو يدا بجديد .
الإكثار من ضرب المثل وحسن التعليل. كان من أهم الدواعي إلى طلب الأمثال حاجة العقلية الجديدة إلى شفع القضايا بما يوضح معناها ويؤيد دعواها , وقد ساعد القائلين على ضربها ما انتشر في البيئات الجديدة منذ الصدر الأول من ترجمة الأقاصيص في الحكم والأمثال ووضع قواعد العلم في مختلف الفنون. أمثلة :قال أبو العتاهية :
يا رب ذي نشب تكنّفه *** حب الحياة وغرّه نشبه
فقد صار مما كان يملكه *** صفرا وصار لغيره سلبه
يا صاحب الدنيا المحب لها *** أنت الذي لا ينقضي تعبه
إن استهانتها بمن صرعت *** لبقدر ما تسمو به رتبه
وإن استوت للنمل أجنحة *** حتى يطير فقد دنا عطبه
قال أبو تمام :
وطول مقام المرء في الحيّ مخلق *** لديبا جتيه فاغترب تتجـــدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة *** إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
قال ابن شبل البغدادي :
يفني البخيل بجمع المال مدته *** وللحوادث والأيام ما يدع
كدودة القز تبنيه ويهدمها *** وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
طرافة الصورة والافتتان فيها:
جدَّ الشعراء في استنباط المعاني الدقيقة الجديدة وتصوريها تصويراً فنياً، حتى غدت بعض القصائد عند نفر منهم –كابن الرومي وبشار- معرضاً لتزاحم هذه المعاني الطريفة، ومن مثل قول بشار:
يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وكانت الرغبة في الافتتان والطرافة باعثاً لهم على تصوير المعاني التي طرقها الشعراء قبلهم، فيضيفوا إليها ويوسعوا من دائرتها، أو يوجزوا في لفظها. وبالجلمة فإنهم حاولوا "إعادة خلقها"، إن صح هذا التعبير. فإذا كان النقاد يستحسنون قول الأعشى:
وكأس شربتُ على لذةٍ وأخرى تداويت منها بها
وقد دارت حول هذا الاتجاه الفني معارك نقدية خصبة استحوذت على اهتمام النقاد، فتناولت كتبهم النقدية العامة –كالشعر والشعراء والصناعتين والعمدة وأسرار البلاغية وغيرها- قضية "السرقات الأدبية" ودارت حولها معارك أدبية خصبة، واختلف مفهوم النقاد فيها تبعاً لاختلاف الزمن والثقافة.
وقد أخصبت هذه القضية عدة قضايا أخرى لا تقل عنها أهمية في تاريخ الأدب العربي كقضية اللفظ والمعنى، والقديم والجديد، هذه القضايا القديمة الجديدة ظلت مجالاً لاهتمام الباحثين في مختلفة العصور حتى العصر الحديث، في محاولة من الباحثين المحدثين لاكتشاف التراث الأدبي والنقدي وتقويمه، والربط بين ماضينا وحاضرنا، لتأصيل نهضتنا المعاصرة، والبعد بها عن أن تكون نبتاً معلقاً في الهواء، دون جذور راسخة تعتمد عليها، ودون تربة خصبة تلتقي فيها الروافد الثقافية في الماضي الباقي والحاضر المتجدد؛ فينتج عن هذا المزج والتفاعل نهضة ثقافية تجمع بين أصالة القديم وطرافة الجديد.
الإبداع في التصوير والإغراب في الخيال :
كانت هذه الناحية أظهر النواحي في شعر العصر العباسي منذ أن بدأ إلى أن زالت الدولة العباسية، وذلك بأنه ورث إذ بدأ حضارة فارسية ضاربة في القدم إلى عهد سحيق، وفيها من آثار الخيالات الواسعة والتصاوير البارعة ومن صناعات الأيدي الشيء الكثير, هذا إلى ما جادت به طبيعة تلك البلاد من مناظر ذات بهجة وسحر, فكان شعراء بغداد, حيث تلفتوا وجدوا منابع الخيال على بعد قرارها أجرى من السلسال وأصفى من الزلال, ولذلك جروا في ميدانه وطاروا في سمائه إلى مدى بعيد أنتج من التصاوير الهائلة والخيالات المبدعة ما جاء فتنة للناظرين, وصار لمن خلفهم من الشعراء بعد انتشار الآداب في الحواضر والأمصار, المأخذ ومحل المحاكاة من ذلك قول البحتري في وصف بركة المتوكل:
تنصب فيها وفود الماء معجلة *** كالخيل خارجة من حبل مجريها
كأنما الفضة البيضاء سـائلة *** مـن السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا *** مثل الجواشن مصقولا حواشيها
فحاجب الشمس أحيانا يضاحكها *** وريـق الغيث أحيانا يباكيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها *** ليـلا حسبت سماء ركبت فيها
ويقول بشار بن برد أيضا في تشبيه الفؤاد المضطرب وعين المسهد الخائف:
أقول وليتي تزداد طـولا *** أمـا لليل بعدهم نهار
جفت عيني عن التغميض حتى *** كأنّ جفونها عنها قصار
* استخدام الأدلة المنطقية والآراء الفلسفية :
لم تكن شاعرية الشاعر قبل العصر العباسي تعتمد منه على ثقافة علمية ، ولذلك بقي شعره فطريا ليس فيه أثر من تثقيف وتعليم , أما في العصر العباسي فقد انخرط الشعراء في زمرة العلماء , وأصبح منهم في كل ناحية أعلام , وتأثر شعرهم من هذه الناحية تأثرا شديدا , فكان ميدانا لأفكارهم المنطقية ومجالا لآرائهم الفلسفية , وظهر فيه العقل المثقف بمظهر الغلبة على العقل الفطري .
*وكان المجتمع الجديد بما فيه من حوار ونقاش في الدين وغير الدين منميا لهذه الفكرة دافعا لها إلى الأمام, ولعل أول خطوة في سلوك هذا السبيل كانت القدرة على صوغ الحكمة بعد ضرب المثل وإحسان التعليل على ألسنة كثير من شعراء العصر الأوّل كبشار وأبي العتاهية
*وبعدها كان اقتباس بعض المعاني الفلسفية لشيوع العلوم العقلية بين المسلمين بعد ترجمتها منذ عصر المنصور إلى عهد المأمون, وقد ظهر الاقتباس على ألسنة بعض شعراء العصر الثاني كابن الرومي .
* ولما جاء العصر الثالث, وفاضت فيه العلوم الفلسفية فيضا, اغترف الشعراء منها اغترافا ظهر غزيزا على ألسنة أوائلهم, ثم زاد غزارة وعمقا بعقلية أواخرهم .
*ولكن هذا المعين بعد وجف في العصر الرابع :الأمثلة. قال بشار بن برد في الحكم القريبة من وحي الفطرة :
إذا كنت في كل الأمور معاتبا *** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحد أوصل أخاك فإنه *** مقارف ذنب مرة ومجانبـــــه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى *** ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
ضرب المثل وبراعة التعليل:
ومن ظواهر اتجاه الشعراء إلى الافتتان في تصوير معانيهم إكثارهم من ضرب المثل وحسن التعليل. وساعدهم على الإجادة في هذا المجال تلك الحركة العقلية المزدهرة في العصر، وما أحاطت به وهضمته من الثقافات المتنوعة. فكان لابد أن ينعكس ذلك على أبناء العصر من الشعراء.
ومن نماذج هذا الاتجاه قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مُخْلِقٌ لديبـاجتيه فاغترب تتجـدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليه بسرمد
المبالغة والتهويل :
لعل أوّل ما حبب إلى شعراء العصر العباسي المبالغة والتهويل, أن معظمهم كانوا من المولدين الراجعين في نسبهم إلى أصل فارسي, وللفرس ولع بالمبالغة شديد، ولما كان هؤلاء هم القدوة في العصر العباسي الأول لرفعة أقدارهم عند الخلفاء ونفوذهم فقد انساق الجميع إلى هذه الظاهرة رغبة في التحبب وطمعا في المال .
والسبب الثاني هو تفتح أبواب المعاني واتساع مناحي التفكير وتنافسهم في هذا الميدان .
ومثال ذلك : المبالغة في المديح والرثاء....الخ، مثاله: قال أبو نواس يمدح الرشيد :
ملك تصور في القلوب مثاله *** فكأنّه لم يخل منه مكان
ما تنطوي عنه القلوب بنجوة *** إلا يحدثه بها اللحظان
حتى الذي في الرحم لم يك صورة *** لفؤاده من خوفه خفقان
تمحيص الأفكار وترتيب العناصر :
أصبح الشعراء في العصر العباسي ينزعون في الفطرة الشعرية لا عن تلك الفطرة وحدها كما كان أسلافهم, بل عنها ممزوجة بثقافة تجمع إلى مسائل الأدب والعلم والفلسفة وغيرها مما يوسع العقل والفكر؛ من فنون حضارة وارفة الظلال تنمي الذوق وترقي الإحساس بالجمال, ولذلك كانوا يمحصون أفكارهم ويرتبون عناصر أقوالهم ثمّ يبرزونها في ثوب ذي جمال خلاب .
ولقد حملت هذه الظاهرة الشعراء العباسيين أن يبرعوا البراعة كلّها في ابتداء القصيدة وفي الانتقال خلالها من المطلع إلى الغرض المقصود فيها ثمّ في انتهائها إلى درجة حملت رجال البلاغة على تدوين هذه المحاسن الثلاثة في البديع باسم حسن الابتداء أو براعة المطلع، وحسن الانتقال أو براعة المقطع، وحسن الانتهاء أوبراعة الختام.
أ- ومن حسن الابتداء قول البحتري :
بودي لو يهوى العزول ويعشق *** ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق
ب- براعة المقطع : حسن التخلص وحسن الانتقال كقول البحتري في الفتح بن خاقان:
رياض تردت بالنبات مجودة *** بكل جديد الماء عذب الموارد
إذ راوحتها مزنة بكرت لها *** شآبيب مجتاز عليها وقـاصد
كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت -*** عليها بتلك البارقات الرواعد
ج-براعة الختام : حسن الانتهاء وهي أن تختم القصيدة بما يشعر بالانتهاء،كقول الأرجاني :
علاك سوار والممالك معصم *** وجودك طوق والبريّة جيد
وقول أبي تمام الذي ضم إلى براعة المطلع روعة الاستهلال:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
ثانيا: القيم المستحدثة في الشعر العباسي من ناحية الألفاظ والأساليب :
لقد كان نصيب الشعر في العصر العباسي من الدقة في انتقاء الألفاظ السهلة الرشيقة الممثلة للمعنى أتم تمثيل, ومن التأنق في صوغ العبارات المحكمة الرائعة المفهمة للغرض في إحكام وقوة أداء, أوفر من نصيب النثر, لأن الشعر مجال الأناقة والظرف ولغة الحسن والجمال ومأخذ الغناء والأصوات، وكل ذلك يستدعى عذوبة تنسجم مع وجدان الشاعر, ويطلب خفة تطير مع خياله، كما يطلب نغما يتسق وموسيقية الوزن وجرس القافية . من بين الأدباء المعاصرين الذين وقفوا في دراساتهم الأدبية عند ظاهرة التجديد في اللغة د.شوقي ضيف, فقد لاحظ أن علماء اللغة قد وضعوا أيديهم على جملة من السقطات التي وقع فيها المولدون فسجلوها, وهي عنده ليست سقطات بالمعنى الصحيح, وإن وجدت فهي لا تخرج عن أمور ثلاثة : " إما ضرورات رآها الشعراء العباسيون في الشعر القديم فقاسوا عليها, وإمّا لغات شاذة رأوها أيضا في هذا الشعر, وظنوا أن من حقهم مجاراتها, وإما اشتقاقات وأبنية استحدثوها على ضوء المقاييس اللغوية التي تلقوها.
ومن بين السقطات التي أخذها الأخفش – العالم اللغوي – على بشار لما قال :
على الغزلى منّي السلام فربّما *** لهوت بها في ظل محضرة زهر
وقال أيضا :
والآن أقصر عن سمية باطلي *** وأشار بالوجلى عليّ مشير
فآخذ عليه الأخفش اشتقاقه لفظتي " الغزلى " و " الوجلى " من الغزل والوجل وهذا خطأ لأنه لم يسمع عن العرب من الغزل والوجل " فعلى " وإنما قاسهما بشار , وليس هذا مما يقاس وإنما يعمل فيه بالسماع .
• ومع ذلك فإنّ الشعراء في هذا العصر قد وقع منهم في ناحية الألفاظ والأساليب مالم يكن من زملائهم السالفين , ومن ثم وسمهم العلماء باسم المولدين أو المحدثين , وضنوا عليهم أن يكون كلامهم موطن حجة واستشهاد للآتي :
1-سهولة اللغة والمعنى : وخير من عبر على ذلك أبو العتاهية في زهدياته كما مرّ علينا، ومن أمثلة ذلك أيضا :
* يصور العباس بن الأحنف ذلك في أبيات يعاتب فيها محبوبته فيقول :
أيا من وجهه قمر **** ويا من قلبه حجر
ويا من جلّ في عيني **** فما عندي له خطر
ويامن ليس في الدنيا **** لنفسي غيره وطر
* ويقول إبراهيم الموصلي:
لذات الخال أرّقني *** خيال بات يلثمني
بكى وجرى له دمعي *** لما بالقلب من حزن
فلا أنساه أو أنسى *** إذا أدرجت في كفني
*استعمال بعض العبارات الأكثر تداولا بين عامة الناس مثل عبارة " على العينين والرأس " كما في قول بشار :
لقد كنت على العينــ ـــين والرأس فنجيت
كما طعموا أشعارهم بعبارة(يانور عيني) الدالة على ما كان يكنه العزيز لعزيزته من محبة ومودة كقول أبي نواس :
جنان يا نور عيني *** نهكت جسمي خطوبا
التصرف في بعض الكلمات العربية : تصرفا أخرجها عن معانيها القديمة إلى معاني لم تكن معروفة للعرب , ثم كانوا يشتقون منها بعد هذا الإخراج إلى المعنى الجديد ما هو منه , كما فعلوا في كلمة " قصف " وأصل معناها كسر الغصن الصغير , فإنهم أطلقوها على اللهو كما قال أبو نواس :
لا يصرفنّك عن قصف وإصباء *** مجموع رأي ولا تشتيت أهواء
استعملوا كثيرا من الألفاظ المعربة : ولعل كثيرا منها كان من تعريبهم بأنفسهم :
مثل كلمة : آذريون معرب أذركون أي لون النار , لورد أحمر الورق أو أصفره مع سواد الوسط بينهما , ولذلك يشبه الأحمر منه بكأس عقيق فيه مسك كقول عبد الله بن المعتز :
وطاف بها ساق أديب بمنزل *** كخنجر عيار صناعته الفتك
وحمل آذريونه فوق أذنه *** ككأس عقيق في قرارتها مسك
نقلوا بعض الألفاظ الأعجمية على حالها من غير تعريب : تطرفا وتملحا كلفظتي آب سرد بمعنى الماء البارد في قول العماني :
لمّا هوى بين غياض الأسد *** وصار في كف الهزبر الورد
آل يذوق الدهر آب سرد
استخدموا كثيرا ألفاظ العلوم والفنون والصناعات ومصطلحاتها :
مثاله قول أبي الفتح البستي :
عزلت ولم أذنب ولم أك جانيا *** وهذا لأنصاف الوزير خلاف
حذفت وغيري مثبت في مكانه *** كأني نون الجمع حين يضاف
جعل ألفاظ العلوم ومصطلحاتها لغة تأليفية :
في الفقه والتاريخ والطب , فألفوا منظومات فيها ليسهل على الناشئين حفظها وتحصيل مسائل العلوم بتعليمها .
انحدار الشعراء إلى استعمال كثير من ألفاظ السخف والبذاءة وعبارات الخلاعة والمجانة كما اتضح ذلك آنفا عند الكلام عن أغراض الشعر كالهجاء والغزل والمجون، أحسنوا كثيرا في استخدام ألفاظ التشبيه والمجاز والكناية .أكثروا من المحسنات البديعية على اختلاف أنواعها خاصة الجناس .
أمثلة :
أ- الجناس المماثل : قول ابن الرومي وكان مولعا بالجواري السود
للسود في سود آثار تركن بها وقعا من البيض يئنى أعين البيض
الجارية سوداء القلب أبيض السيف المرأة
ب- ومن المستوفي وهو المختلف اسميه وفعليه قول البستي :
فقال لي دعني ولا تؤذني *** إلى متى أجري بلا أجر
إيداع الأشعار التصرفات اللفظية الدالة على تملك زمام الصناعة:
كالحريري في مقاماته.
نموذج في التجديد:
"فن الهجاء لبشار ابن برد"
أكثر بشار من الهجاء وافتن فيه. وساعدته طبيعته والظروف المحيطة به على هذا الافتنان.
فالهجاء يقوم على الإصغار من الناس والحط من شأنهم، والاعتقاد بضآلتهم، وقد كانت هذه الصفات من أبرز ما يتصف به بشار، ثم زاد من إنماء موهبته الهجائية الإحساس بتناقض شعوره الممتلئ بالإزراء على المجتمع، مع الواقع الذي جعل كثيراً من أفراده أرفع منه منزلة وأعلى مكاناً. ومن ثم تولد في نفسه الإحساس بكراهيتهم والحقد عليهم. فأخذ في تلمس عيوبهم ونقائصهم وإبرازها في صورة تستدعي النفور أو توجب المقت، أما هذا الذي دفعه إلى إصغاء من حوله، فسببه الجوهري شعوره بالضعة التي يحسها، بجانب الطموح الذي يدفع به دفعاً إلى مقاومة هذا الشعور أنه يشعر بالضعة في نفسه وخلقته وآفته وأسرته بل وفي جنسه. فدفعته مذلته إلى محاولة الاستعلاء عليها وقهرها بطموحه الذي هدف من ورائه إلى تغطية كل نقائصه، وبذَّ كل معاصريه.
فقد كان شعره الهجائي من أجود شعره، لا لأنه صادق في إلصاق الصفات الذميمة بمن يهجوه، بل لأنه يمثل سخطه على الناس، وما يضطره إليه هذا السخط من ألوان الإسراف وضروب الاعتداء من أجل تجاوز المكانة التي يريد المجتمع إلزامه بعدم تجاوزها.
على أية حال، كان بشار بتكوينه النفسي مهيأ للإقذاع في الهجاء، فهو منذ حداثته سليط اللسان، ضيق الصدر بالناس، فهو القائل "الحمد لله الذي ذهب ببصري، لئلا أرى من أبغض!" متناسياً أيضاً أنه قد حرم من رؤية من يحب.
وعندما ينشد أبياته:
وجارية خلقت وحدهـا كـأن النساء لـديها خـدم
فلما رأيت الهوى قاتلي ولست بجارٍ لها ولا بابن عم
دسست إليها أبا مجاز وأي فتى، إن أصاب اعتزم
فمـا زال حتى أنـابت له فراح وحـلَّ لنا ما حرم
يسأله أحد الحاضرين: عن "أبو مجاز" هذا؟ فيرد محتداً: وما حاجتك إليه؟ لك عليه دين؟ أو تطالبه بطائلة (ثأر)؟. هو رجل يتردد بيني وبين معارفي في رسائل !! كما قال كلاماً قريباً من ذلك عندما أعوزته القافية فقال "غنني للقريض يا ابن قنان" وسئل عمن يكون ابن قنان هذا؟!
وقد وصل به الأمر إلى أنه أصبح يتفكه بالهجاء، ويعده مجلبة لسروره، كما حدث في البيت الذي خطر له عندما سمع نهيق حمار، واحتاج في قافيته إلى اسم، فمر به صديقه "تسنيم بن الجواري" فما كان من بشار إلا أن ختم باسمه بيته الفاحش!
فهو في مقتبل حياته قداتخذ من الهجاء وسيلة إلى القوة والغنى، ثم تطور به الأمر إلى أن أصبح الهجاء بالنسبة إليه متنفساً لنفسيته الموتورة من المجتمع، وسلاحاً فتاكاً يرد به على الهجمات الموجهة إليه.
يستمنح أخا الخليفة المنصور "العباس بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس" فلما لم يمنحه هجاه بقوله:
ظل اليسار على العباس ممدود وقلبه أبداً بالبخل معقود
إن الكريم ليُخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل زُرْقُ العيونِ عليها أوجه سُود
وظل هكذا طوال عمره ينفث سمومه الهجائية في كل اتجاه. والسبب الحقيقي لقتله عندما أصابت المهدي ووزيره، فاتخذا الزندقة ذريعة إلى ذلك. وقد كانت هذه التهمة من أمضى الأسلحة في الانتقام من الخصوم، وربما اتهم بها كثيرون صحت عقيدتهم. ويعجب المرء: كيف خفيت زندق بشار –إن كان زندقياً- على قاتليه، وهو الذي عمر طويلاً، وتعرض للدين كثيراً وبالغ في المجون والتهتك؟!!
اللهم إلا أن يتصدى له من هو أقدر منه على الفحش والإقذاع، فهنا يكف بشار مرغماً فتهدد الصانع بالهجاء، ولكنه أقلع بعد التهديد، وابتسم ليخفي غيظه المكتوم وصفق بيديه، قائلاً: "اللهم اخزه، أنا أمازحه وهو يأبى إلا الجد!".
بل لقد وصل به الأمر أن استضعفه بعض الشعراء واستذلوه وأجبروه على دفع جزية سنوية. كما فعل معه أبو الشمقمق وهجاه بشعر لا يمكن روايته، فاقتنع بشار بضرورة أداء هذه الجزية، ليتقي أذاه. وقد استمر أبو الشمقمق طعن بشار في مواطن ضعفه، واستغلالها لإذلاله وابتزازه، فها هو ذا بمجرد علمه بحصول بشار على عطية كبيرة، يأتيه زاعماً أنه مر بصبيان فسمعهم ينشدون:
هللينه! هللينه
طعن قِثَّاة لِتينة
ان بشار بن بردٍ
تيسٌ أعمى في سفينة
فيعطيه بشار مئتي درهم قائلاً: "خذه هذه ولا تكن راوية الصبيان يا أبا المشمقمق"
وقريب ذلك تأثره البالغ من هجاء حماد عجرد له "وأعمى يشبه القرد...الخ" ولا شك أن في موقف بشار شيئاً من الجبن، ولكن هذا الجبن سببه الجوهري حساسية بشار الزائدة، أو بتعبير أدق شعوره الواضح بالنقص الذي يعانيه في خلقته ومن آفته!
ويبقى أن بشاراً –فيما عدا مثل هذه المواقف الباردة التي صرعه فيها خصومه- اتخذ من الهجاء سلاحاً ماضياً أرهب به خصومه فسكنوا عنه، كما جلب به أموال كثيرين خشوا تطاوله عليهم وخوضوه في أعراضهم.
غير أن هذا الهجاء لم يكن –كما صوره الدكتور طه حسين. خالياً من كل جمال فني، مليئاً بالقِحَة والسِّباب، لأن كثيراً من هذا الهجاء كان مليئاً بالصور الرائعة المعبرة بصدق عن نفسيته الموتورة من مجتمعه.
كذلك لم يكن هجاء بشار –كما ذهب الأستاذ العقاد- مجرد جمع لأقبح العيوب، لا دخل لصاحبه فيه غير نظم المثالب، وكلما أعورته البراعة وصدق الشعور بالغ في الإقذاع وأفحش في الهجو. ولعل السبب في هذه المبالغة أنها جاءت نتيجة لمقدمات اقترضها الأستاذ العقاد وحدد فيها مواصفات الهجاء المثالي المطبوع من أنه "الذي يولد بفطرته هاجياً لا يرضى عن شيء ولا يستريح إلى مدح أحد ولا يكف عن النقد والعيب كلفّا بهما واندفاعاً إليهما، ثم رأى أن القالب النظري المفترض لا ينطبق على بشار
* أبو نواس :( 145- 199ه ، 762-813م) شاعر عباسي عربي الاب فارسي الام , توفي والده وهو صغير فنشأ متشردا متفلتا من رقابة الاهل وقيود الاخلاق , جمع في حياته الوانا من التصرفات , فكان ماجنا يتنقل بين اماكن اللهو والشراب ولوعا بالمعرفة والادب , يتردد على العلماء ويحضر مجالسهم.
دع عنك لومي :
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ***** ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ
صَفراءُ لا تَنْزلُ الأحزانُ سَاحَتها***** لَوْ مَسّها حَجَرٌ مَسّتْهُ سَرّاءُ
قَامْت بِإبْريقِها ، والليلُ مُعْتَكِرٌ**** فَلاحَ مِنْ وَجْهِها في البَيتِ لألاءُ
فأرْسلَتْ مِنْ فَم الإبْريق صافيَة ً***** كأنَّما أخذَها بالعينِ إغفاءُ
رَقَّتْ عَنِ الماء حتى ما يلائمُها****** لَطافَة ً، وَجَفا عَنْ شَكلِها الماءُ
فلـَوْ مَزَجْتَ بها نُوراً لَمَازَجَه ******ا حتى تَوَلـدَ أنْوارٌ وأَضـواءُ
دارتْ على فِتْيَـة ٍ دانًَ الزمانُ لهمْ،*** فَمـا يُصيبُهُمُ إلاّ بِما شـاؤوا
لتِلكَ أَبْكِي ، ولا أبكي لمنزلة ٍ ***** كانتْ تَحُـلُّ بها هندٌ وأسماءُ
حاشا لِدُرَّة َ أن تُبْنَى الخيامُ لها****** وَأنْ تَرُوحَ عَلَيْها الإبْلُ وَالشّاءُ
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفة ً***** حفِظْتَ شَيئًا ، وغابَتْ عنك أشياءُ
لا تحْظُرالعفوَ إن كنتَ امرَأًَ حَرجًا**** فَإنّ حَظْـرَكَهُ في الدّين إزْراءُ
لابي نواس ديوان شعري متعدد الاغراض تشغل الخمريات مكانة بارزة فيه, والنص المثبت مقطوعة قالها الشاعر مخاطبا ابراهيم النظّام شيخ المعتزلة الذي كان يلومه على شرب الخمرة ويتشدد في أمر الغفران .
اذا كانت الخمريات موضوعا تقليديا تناوله العديد من الشعراء فمقطوعة ابي نواس تمتاز بان جانبها الخمري وسيلة لغاية اخرى وبانها اذا ترتبط بمناسبة شخصية , تدخل في اطار الشعر الوجداني وتبرز بالتالي بعضا من ملامح صاحبها ومن معطيات البييئة التي عاش فيها .
أما صاحبها فانسان عابث في ظاهر حياته , وقد يكون مؤمنا في قرارة ذاته ولا سيما ان اجواء العصر اتاحت له مجالات اللهو فاقبل عليها بغير حساب ووعد نفسه بالغفران, فتغاضى, ولو مؤقتا عن محرمات الدين .
واما البيئة فالابيات شاهدة على ما شاع فيها من حريات : حرية اجتماعية اتاحت الانصراف العلني الى اللهو الماجن في ظل خلفاء انهمك بعضهم بنفسه وتغاضى عن شؤون الرعية , وحرية دينية لم يتحرج معها الكثيرون من عصيان اوامر الله , وحرية فكرية اغرت الثمقفين بمجالس البحث وحلقات النقاش , التي كثيرا ما مسّت العقيدة بشك واذت الاداب .
وللأبيات جانب سياسي تمثلّه شعوبية معلنة تشهد على صراع قائم بين العرب والأعاجم , وعلى تنازع طاول السياسة والدين وأنماط الحياة . وفي القصيدة شهادة على الثقافة المركبة التي يسهل تبينها من طريقين : من تفكير الشاعر , ومن الاشارات المتفرقة المبثوثة في أبياته .
فابو نواس , في نهج تفكيره , من اللذين يعتمدون التعليل الفكري والحجج المقنعة , ومن الذين شاركوا القدامى في حسيّة معانيهم ,وهو يمتازون عنهم بتجريد ذهني من خلال صور تدرك بالفكر ولا تؤخذ بالحواس .
وهو في معاني ابياته يعرض تلميحا لنظريات ومواقف كانت تشغل الفلاسفة والتكلمين : ففي دفاعه عن الشراب يورد بعض مصطلحات ذات بعد ديني , هي في الواقع مؤشر لما كان سائدا في عصره من جدل كلامي ( " فقل لمن ..." لا تحظر .... " ) وفي تلميحه الى حرية الانسان صدى لاراء الجبرية والقدرية (" دارت على فتية ... " ) وفي تثبيت العفو مناصرة لرأي المرجئة على المعتزلة . هذا فضلا عن تعابير ساقها في صورة تشهد على ثقافة علمية فلسفية وعلى كثافة في المفاهيم عبّرعنها بايجاز بارع , من ذلك كلامه على رقة الاجسام ولطافتها ..
هذا بعض ما في الابيات من دلالات. يبقى السؤال عن منزلة هذه القصيدة في اطار التقليد والتجديد.
اذا كانت الخمرة من الموضوعات القديمة التي تناولها الشعراء وزيّنوا بها قصائدهم بغير اه يرتبطوا بها ادمانا ووجدانا , فان أخبار أبي نواس تشهد على تعلقه بها , وديوانه – كمّا ونوعا- يجعله شاعر الخمرة غير منازع , وخير ممثل لها في العصور القديمة كلّها . واذا كان الشاعر لم يخرج عن اطار القديم في وصفه المادي المحسوس للخمرة , وفي ذكر مجلسها والندامى , فانّ جانب التجديد الذي قامت عليه شهرته يتجلى في استثمار موضوع الخمرة للتعبير عن موقف .
فأبو نواس من روّاد الثورة الشعوبية في الادب العربي , هاجم الأطلال ومظاهر الصحراء داعيا الى استلهام واقع الحياة واحلال الخمرة , عنوان الجديد , مكان الطلل , عنوان القديم , فكان في ذلك من المجددين . ثمّ ان مقطوعته تشهد انه أفرد للخمرة قصائد قائمة بذاتها , فنشأ بفضله فنّ مستقل هو الخمريات , وهوفي هذا الميدان ايضا مجدد .
ومن عناصر التجديد ما سبقت الاشارة اليه من أفكار جزئية , علمية وفلسفية , الى تجريد وابتكارات ساعدت عليها اجواء العصر , ويكفي ان الابيات كلها لا تذكر من الصحراء الا اشارة تهكمية من الخيمة والابل .
اما بالنسبة الى الاسلوب فظاهرة التجديد فيه اقلّ بروزا , والعفوية التي طبعت شخصية ابي نواس انعكست في تعبيره وسهولة مفرداته وبساطة تراكيبه على متانة ودقة . لا شك في ان هذه الخاصية هي نتيجة رقة الحياة وليونة الطباع الا ان العصر سار في اتجاه الصنعة الفنية والمحسنات و وهذا ما لم يأخذ به أبو نواس . واذا كان الشاعر قد اكثر من التشخيص والطباق فلأن طبيعة الموضوع اقتضت هذا الموقف الجدلي . اما التشخيص فلكون الشاعر لا ينظر الى الخمرة كمادة جامدة , بل يهبها روحا ويعاملها معاملة الاحياء ويقيم معها صلة وجدانية حميمة . وأما الطباق , فلأن معاناة الشاعر وترجّحه بين موقفين متباينين هما اللذان قادا تلقائيا الى ظهور لغة التقابل بين مفهومين , وبالتالي الى اعتماد هذا اللون البلاغي دعامة تبنى عليها معظم الابيات .
بهذه المقطوعة الصغيرة التي أثارتها مناسبة فردية , عبّر أبو نواس بوجدانية صادقة عن مشاعره وافكاره , وأعطى بطريقة غير مباشرة صورة عن العصر الذي عاش فيه , كما انه , بخصائص فنّه , كان طليعة تيّار تجديدي ستتبلور مظاهره على امتداد العصر العباسي.
**************************************************
أبو فراس الحمداني: (320 – 357 ﻫ \ 932- 968 م ) هو أحد أمراء بني حمدان , ولد زمن انحلال الأمبراطورية الاسلامية وتقاسمها دويلات . توفي والده وهو صغير فنشأ في كنف ابن عمه سيف الدولة الحمداني أمير حلب . عاش في بحبوحة وجاه كبيرين , وفي جو عابق بالفروسية والقتال . وقع بأيدي الروم في احدى المعارك فقضى في الأسر أربع سنوات يعاني قسوة الذلّ ولوعة البعاد قبل ان يفتديه ابن عمه ويطلق سراحه.
أراك عصي الدمع
أراكَ عصيَّ الدَّمْعِ شيمَتُكَ الصَّبْرُ***أما لِلْهَوى نَهْيٌ عليكَ و لا أمْرُ؟
بَلى، أنا مُشْتاقٌ وعنديَ لَوْعَةٌ*****ولكنَّ مِثْلي لا يُذاعُ لهُ سِرُّ!
إذا اللّيلُ أَضْواني بَسَطْتُ يَدَ الهوى****وأذْلَلْتُ دمْعاً من خَلائقِهِ الكِبْرُ
تَكادُ تُضِيْءُ النارُ بين جَوانِحي ****إذا هي أذْكَتْها الصَّبابَةُ والفِكْرُ
مُعَلِّلَتي بالوَصْلِ، والمَوتُ دونَهُ****إذا مِتُّ ظَمْآناً فلا نَزَلَ القَطْرُ!
حَفِظْتُ وَضَيَّعْتِ المَوَدَّةَ بيْننا ***وأحْسَنُ من بعضِ الوَفاءِ لكِ العُذْرُ
وما هذه الأيامُ إلاّ صَحائفٌ****لأحْرُفِها من كَفِّ كاتِبِها بِشْرُ
بِنَفْسي من الغادينَ في الحيِّ غادَةً ****هَوايَ لها ذنْبٌ، وبَهْجَتُها عُذْرُ
تَروغُ إلى الواشينَ فيَّ، وإنَّ لي *****لأُذْناً بها عن كلِّ واشِيَةٍ وَقْرُ
بَدَوْتُ، وأهلي حاضِرونَ، لأنّني****أرى أنَّ داراً، لستِ من أهلِها، قَفْرُ
وحارَبْتُ قَوْمي في هواكِ، وإنَّهُمْ ****وإيّايَ، لو لا حُبُّكِ الماءُ والخَمْرُ
فإنْ يكُ ما قال الوُشاةُ ولمْ يَكُنْ ****فقدْ يَهْدِمُ الإيمانُ ما شَيَّدَ الكفرُ
وَفَيْتُ، وفي بعض الوَفاءِ مَذَلَّةٌ،*****لإنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدْر
وَقورٌ، ورَيْعانُ الصِّبا يَسْتَفِزُّها،****فَتَأْرَنُ، أحْياناً كما، أَرِنَ المُهْرُ
تُسائلُني من أنتَ؟ وهي عَليمَةٌ *****وهل بِفَتىً مِثْلي على حالِهِ نُكْرُ؟
فقلتُ كما شاءَتْ وشاءَ لها الهوى: ****قَتيلُكِ! قالت: أيُّهمْ؟ فَهُمْ كُثْرُ
فقلتُ لها: لو شَئْتِ لم تَتَعَنَّتي، ****ولم تَسْألي عَنّي وعندكِ بي خُبْرُ!
فقالتْ: لقد أَزْرى بكَ الدَّهْرُ بَعدنا ****فقلتُ: معاذَ اللهِ بل أنتِ لا الدّهر
وما كان لِلأحْزان، ِ لولاكِ، مَسْلَكٌ****إلى القلبِ، لكنَّ الهوى لِلْبِلى جِسْر
وتَهْلِكُ بين الهَزْلِ والجِدِّ مُهْجَةٌ*****إذا ما عَداها البَيْنُ عَذَّبها الهَجْرُ
فأيْقَنْتُ أن لا عِزَّ بَعْدي لِعاشِقٍ، ****و أنّ يَدي ممّا عَلِقْتُ بهِ صِفْرُ
وقلَّبْتُ أَمري لا أرى ليَ راحَة،ً ****إذا البَيْنُ أنْساني ألَحَّ بيَ الهَجْرُ
فَعُدْتُ إلى حُكم الزّمانِ وحُكمِها****لها الذّنْبُ لا تُجْزى بهِ وليَ العُذْرُ
كَأَنِّي أُنادي دونَ مَيْثاءَ ظَبْيَةً*****على شَرَفٍ ظَمْياءَ جَلَّلَها الذُّعْرُ
تَجَفَّلُ حيناً، ثُمّ تَرْنو كأنّها ****تُنادي طَلاًّ بالوادِ أعْجَزَهُ الحَُضْرُ
فلا تُنْكِريني، يابْنَةَ العَمِّ، إنّهُ ****لَيَعْرِفُ من أنْكَرْتهِ البَدْوُ والحَضْرُ
ولا تُنْكِريني، إنّني غيرُ مُنْكَرٍ****إذا زَلَّتِ الأقْدامُ، واسْتُنْزِلَ النّصْرُ
وإنّي لَجَرّارٌ لِكُلِّ كَتيبَةٍ*****مُعَوَّدَةٍ أن لا يُخِلَّ بها النَّصر
وإنّي لَنَزَّالٌ بِكلِّ مَخوفَةٍ ****كَثيرٍ إلى نُزَّالِها النَّظَرُ الشَّزْرُ
فَأَظْمَأُ حتى تَرْتَوي البيضُ والقَنا**** وأَسْغَبُ حتى يَشبَعَ الذِّئْبُ والنَّسْرُ
ولا أًصْبَحُ الحَيَّ الخُلُوفَ بغارَةٍ*****و لا الجَيْشَ ما لم تأْتِهِ قَبْلِيَ النُّذْرُ
ويا رُبَّ دارٍ، لم تَخَفْني، مَنيعَةً ****طَلَعْتُ عليها بالرَّدى، أنا والفَجْر
وحَيٍّ رَدَدْتُ الخَيْلَ حتّى مَلَكْتُهُ ****هَزيماً ورَدَّتْني البَراقِعُ والخُمْرُ
وساحِبَةِ الأذْيالِ نَحْوي، لَقيتُها****فلَم يَلْقَها جافي اللِّقاءِ ولا وَعْرُ
وَهَبْتُ لها ما حازَهُ الجَيْشُ كُلَّهُ ****ورُحْتُ ولم يُكْشَفْ لأبْياتِها سِتْر
ولا راحَ يُطْغيني بأثوابِهِ الغِنى ****ولا باتَ يَثْنيني عن الكَرَمِ الفَقْرُ
وما حاجَتي بالمالِ أَبْغي وُفورَهُ ****إذا لم أَفِرْ عِرْضي فلا وَفَرَ الوَفْرُ
أُسِرْتُ وما صَحْبي بعُزْلٍ لَدى الوَغى، ****ولا فَرَسي مُهْرٌ، ولا رَبُّهُ غُمْرُ
ولكنْ إذا حُمَّ القَضاءُ على امرئٍ****فليْسَ لَهُ بَرٌّ يَقيهِ، ولا بَحْرُ
وقال أُصَيْحابي: الفِرارُ أو الرَّدى؟****فقلتُ:هما أمرانِ، أحْلاهُما مُرُّ
ولكنّني أَمْضي لِما لا يَعيبُني،*****وحَسْبُكَ من أَمْرَينِ خَيرُهما الأَسْر
يَقولونَ لي: بِعْتَ السَّلامَةَ بالرَّدى****فقُلْتُ: أما و اللهِ، ما نالني خُسْرُ
وهلْ يَتَجافى عَنّيَ المَوْتُ ساعَةً ****إذا ما تَجافى عَنّيَ الأسْرُ والضُّرُّ؟
هو المَوتُ، فاخْتَرْ ما عَلا لكَ ذِكْرُهُ****فلم يَمُتِ الإنسانُ ما حَيِيَ الذِّكْرُ
ولا خَيْرَ في دَفْعِ الرَّدى بِمَذَلَّةٍ*****كما رَدَّها، يوماً، بِسَوْءَتِهِ عَمْرُو
يَمُنُّونَ أن خَلُّوا ثِيابي، وإنّما*****عليَّ ثِيابٌ، من دِمائِهِمُ حُمْرُ
وقائِمُ سَيْفٍ فيهِمُ انْدَقَّ نَصْلُهُ، *****وأعْقابُ رُمْحٍ فيهُمُ حُطِّمَ الصَّدْرُ
سَيَذْكُرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهُمْ،*****وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ
فإنْ عِشْتُ فالطِّعْنُ الذي يَعْرِفونَهُ *****وتِلْكَ القَنا والبيضُ والضُّمَّرُ الشُّقْرُ
وإنْ مُتُّ فالإنْسانُ لابُدَّ مَيِّتٌ*****وإنْ طالَتِ الأيامُ، وانْفَسَحَ العُمْرُ
ولو سَدَّ غيري ما سَدَدْتُ اكْتَفوا بهِ *****وما كان يَغْلو التِّبْرُ لو نَفَقَ الصُّفْرُ
ونَحْنُ أُناسٌ، لا تَوَسُّطَ عندنا، *****لنا الصَّدْرُ دونَ العالمينَ أو القَبْرُ
تَهونُ علينا في المعالي نُفوسُنا *****ومن خَطَبَ الحَسْناءَ لم يُغْلِها امَهْرُ
أعَزُّ بَني الدُّنيا وأعْلى ذَوي العُلا،****وأكْرَمُ مَنْ فَوقَ التُّرابِ ولا فَخْرُ
هذه القصيدة واحدة من مجموعة قصائد عرفت بالروميّات , قالها أبو فراس وهو أسير في بلاد الروم . لا يرتبط النص بمناسبة خاصة بقدر ما هو تعبير وجداني عن ألام الشاعر وتفريج لكربته وانتقام لكبريائه الجريح .
كان لواقعة الاسر التي عاشها ابوفراس بالغ الاثر في رسم معالم شخصيته , فهي مرحلة عصيبة مزّقت مشاعر الطمأنينة والرجاء في نفسه وألقت به أسدا جريحا في عتمة السجن يصارع قدره ويتلوى على جمر الأمل . وكان لماضي الشاعر تأثير في حاضره , فبمقدار ما عرف من العزّ والبحبوحة في نشأته وصباه , المه ما انتهت اليه حاله في واقعه الجديد , فهذا التناقض هو الذي فجّر العاطفة وعمّق الشعور بالأسى , وهو الذي ترك صداه , لا في هذه القصيدة فحسب , بل في الروميّات بوجه عام.
هذه التجربة الوجدانية التي مرّبها أبو فراس وجدت تعبيرا عنها في الغزل والفخر , أي في موقفين تنوّع النغم فيهما بين شكاية شجية وحماسة بطولية . واذا كان الغزل يشكل مدخلا الى النص , فالأبيات الباقية مفعمة كلها بروح الفخر , وكأن الشاعر بتغنيه بمكانته وبمجده الغابر يداوي واقعه الراهن . لقد فاخر فأطال , ولكن شعره كان صراعا متواصلا بين ثنائيات ضديّة متلاحقة : بين الاستسلام والصمود , بين المجاهرة بالألم والكتمان , بين الاذلال والتكبّر , بين الغدر والوفاء , بين ضعف الشاعر العاشق وتماسك المحارب الشجاع , بين ايمان الفارس بتجربته ووقوعه في الأسر .
والنص الذي جاء متبدل الأجواء في معانيه , كان ايضا متبدلا في أسلوبه : لقد انعكس واقع الشاعر على نسيج جمله فباتت تجسّّد القلق ةكل ما يصطرع في نفس الشاعر . اللافت ان ابا فراس بعد أن وطّأ للفخر بمطلع غزلي على غرا الأقدمين , استرسل في التباهي , وكان للعاطفة الطاغية على امتداد القصيدة أن قيّدت انطلاقة الخيال , فاكتفى الشاعر , تعبيرا عن أحاسيسه , بصور متفرقة مستوحاة من التراث " بسطت يد الهوى وأذللت دمعا" .. " تكاد تضيء النار بين جوانحي " " ترتوي البيض والقنا"
هذه العاطفة هي التي ضيّقت أيضا مجال الفكر فعكس ذلك بساطة معان ووضوح دلالات . واذا كان القارئ يقف متأملا بعض شعر المجددين ليفهم أفكارهم ( ابي نواس , ابي تمام , المتنبي..) فانه يدرك بيسر ما يقرأ لأبي فراس , لأن معانيه سهلة , قريبة المتناول , مادية التصور , بعيدة من التجريد .
وفي الاطار نفسه , وفي هذا الجو العاطفي , لم يكن مُنتظرا أن يعير الشاعر اهتماما لموجة التوشية والتزيين التي شاعت في الأدب العباسي , وقد كان يكفيه أن يصعّد زفراته الوجدانية بأسلوب واضح من التعبير . على أن عدم السعي الى الصنعة الفنية لا يعني خلوّ الاسلوب من أية جمالية عفوية. ففي الابيات كثير من الطباق سلك الشاعر عبره سبيل المقابلات , من ذلك التذلل والكبر في الدمع , التنكر للشاعر ومعرفته , الفرار والردى . ففي هذه المجموعة من المتضادات ما يضفي على المعاني تلوينا مستحبا . ومن هذا القبيل ما ورد من كنايات كثيرة (" اراك عصي الدمع " , " فلا نزل القطر " " ولا فرسي مهر") تبرز قيمتها الفنية في تجاوز المعنى القريب الى اخر مجردأبعد أثرا وأكثر ملائمة للدلالة المقصودة , هذا عدا التشابيه القريبة ( فتأرن كما يأرن المهر ") والاستعارات الأكثر تواترا والأبعد أثرا ( " بسطت يد الهوى وأذللت دمعا") .
أمّا الألفاظ التي استعملها الشاعر , فسهلة اجمالا , منسجمة مع جو العصر , ولعلّ أكثرها ليونة , تلك التي وردت في القسم الأول من النص حيث العاطفة الحزينة , في حين أن اللهجة تشتدّ وتقسو نسبيا في القسم الفخري ّ البطولي , محافظة على جزالتها من غير أن تجنح نحو الغرابة والتوعّر.
وأمّا الموسيقى , فانها فضلا عن المعاني الوجدانية , أبرز ما ميّز هذه الأبيات : انها موسيقى ساعدت على بلوغ القصيدة أهدافها الدلالية والفنية , وقد تمثّلت في الوزن والقافية والايقاع . لقد نظّم أبو فراس قصيدته على بحر الطويل وهو من أكثر الأبحر استعمالا في الشعر القديم , ومن أشدّها ملائمة لموضوعات الغزل الرصين والفخر البطولي . أمّا القافية الموحّدة , فروّيها حرف تردادي سهل المخرج مستساغ الوقع محدود النغم , وأما الايقاع فعناصره كثيرة تسهم في توفيره ولعلّ أبرز ها في النص تنوّع أساليبه بين خبر وانشاء في تداخل متسارع أوجبته المعاناة وطبيعة الحوار , والتحرّك بين أحوال الزمن ( " أراك عصي الدمع " , " أما للهوى ", " بلى أنا مشتاق " ...)
*************
اذا كانت ظاهرة التجديد قوّيت منذ أطلع الأعصر العباسية , فلا يعني ذلك أن صفحة الماضي قد طويت وان تحولا جذرياً قد طرأ على الأدب. فالحياة العباسية التي ظلّت في أسسها استمراراً للأموية في ميادين اللغة والدين والفكر والاجتماع ... عرفت تطورات غيّرت نسبيا صورتها فتغيّر معها وجه الأدب , وكان التجديد طارئ في موازاة قديم ثابت.
الا أن الكلام على جديد وقديم ضمن العصر العباسي نفسه , لا يعني توافقا بين شعراء التيّار الواحد, فكيف بين المنتمين الى تيّارين مختلفين ! وٳنّ مقارنة سريعة بين أبي نواس وأبي فراس تبرز ذلك .
لا بدّ أولا من الاشارة الى أن عنصر الزمن ليس مؤشرا فاعلا في هذا المجال . فأبو نواس عاش في بداية العصر العباسي وكان مجددا , وعاش أبو فراس في أواسطه وكان مقلدا . ثمّة عوامل أكثر اتصالا بشخصية كلّ من الشاعرين وأبعد تأثيرا في الاتجاه الذي سلك. قد يكون العنصر الواحد منها غير كاف لاحداث تغيير كبير , ولكنها اذا ما تضافرت وتفاعلت تؤثر حتما في توجّه صاحبها . فأبو نواس شعوبي النزعة غير مبال بالتراث العربي بينما أبو فراس عربي أصيل , وأبو نواس منفتح على ثقافة العصر بعكس أبي فراس . وأبو نواس متحرر عابث في حين أن أبا فراس أكثر التزاما بقيم المجتمع وثوابته . ان الاختلاف القائم بين الشخصيّتين أوجد تمايزا في اتجاه الأديبين وبالتالي في نسبتهما الى هذا التيار او ذاك. فمن خلال القصيدتين السابقتين تبدو ملامح متفرّقة من القديم والجديد.
فمن حيث طبيعة المعالجة , صحيح أن كليهما طرح موضوعا فرديا وعبّر بصدق عمّا يخالج نفسه , الا أن أبا نواس استطاع لاتّساع ثقافته , الخروج من المنطلق الفرديّ ( الخمرة ) الى قضية أعمق وأبعد هي قضية الغفران. أمّا أبو فراس فقد ظلّ في اطار حالته الخاصة ولم يعبر منها الى حالة انسانيّة أكثر شموليّة. ثمّ ان المعاني التي ساقها أبو نواس والتي استقاها من الثقافة العباسية , كانت تستدعي تأملا وتمهلا لفهمها , في حين أن معاني أبي فراس ظلّت قريبة المتناول عفوية واضحة. أمّا في التعبير فكلاهما نظّم على بحر تقليدي بقافية موحدّة , الا أن لغة أبي نواس , وان هي لم تأخذ بالصنعة العباسية , فانها بدت بسيطة مستمدة من الحياة اليومية , في حين أن أبي فراس كانت أشدّ أسرا وأقرب الى الصياغة القديمة.
هذه الفوارق أتاحت نسبة أبي نواس الى الجديد , وأبي فراس الى القديم , الجدير ذكره, أنّ النصين لا يمثّلان التقليد والتجديد بكل مظاهرهما , فقد نجد من هو أكثر من أبي فراس اغراقا في القديم( مروان بن أبي حفصة, مهيار الديلمي , البحتري والمتنبي في بعض قصائدهما ) و من هو أكثر من أبي نواس أخذا بالجديد , لا سيّما في الأسلوب ( أبو تمام , ابن المعتز , والصنوبري ).
ٳنّ الصراع بين أنصار القديم والجديد , الذي انطلق قويا خضع لسنّة التطوّر الطبيعي وانتهى معتدلا , ومع ذلك فقد ثبت التجديد في خطوط عامة ذُكرت متفرقة في معالجة النصوص المثبتة , ويمكن أن يختصر بالعناوين الاتية :
- في الفنون: ظلّ الشعر العباسي غنائيّ الطابع , والتطور الذي أصاب اللهو والخمريات والزهد لا يعدو كونه تفاصيل لم تغيّر توجها أساسيا. أمّا الشعر التعليمي الذي برز في هذا العصر ( أبان بن عبد الحميد اللاحقي , أبو العتاهية) فكان الى النظم أقرب منه الى الشعر.
- في المعاني: اذا استمرّت فئة من الشعراء تستوحي البادية , فان معطيات حضارية وثقافية ناشئة أتاحت جديدا في المعاني لا يمكن ٳنكاره وتفنّنا في القديم منها , غيّر وجهه .
- في قواعد النظم: ظلّ مفهوم القصيدة العربية ثابتا والتمسك بمبدأ الوزن والقافية قائما, وان قوي الاتجاه الى النظم على الأوزان المجزوءة والقصيرة بحسب ما تتطلبه طبيعة الموضوع.
في التعبير: اشتدّ الميل الى الصنعة والتزيين وغلبت الرقة والسهولة على لغة الشعراء. ان مستويات
التجديد هذه , كانت واضحة في الشعر , الا أنها لم تكن بالقدر الكافي فتشكّل تحولا جذريا فيه, وقد ظل التطور في الحياة أوسع من انعكاسه على الأدب.
انه لمن الأهمية بمكان أن يظهر الانسان مخلصا تجاه نفسه وفنّه , فلا يصطنع الأحاسيس ولا يتكلّف التعابير . من هذا المنطلق , يخطئ من يتّخذ موقفا مبدئيا مع الحداثة أو ضدّها , فليست الجودة الفنية وليدة ظرف ورهينة عصر و فرُّب جديد زائل وقديم باق و والعكس بالعكس , فالزمن وحده كفيل بتمييز الغثّ من السمين, ولا تقيّم الأثار الا بما تحمله من طاقات فنيّة ومن جوهر انساني. وعلى أي ّ حال لا يجوز الفصل بشكل قاطع بين تقليد وتجديد فالقضية نسبية ومرحلية , ولكلّ شاعر ان يفيد من التراث شريطة ان يضيف اليه ولو قدرا يسيرا من الابداع .
أثناء تصفحي احدى الكتب , وجدت النص التالي< معركة القديم والحديث في الأدب العباسي> للأديب اللبناني حسين مروّة , وهذا النص هو أجزاء مستلّة من مقالة أثبتها الأديب في كتابه " تراثنا ... كيف نعرفه " وعالج فيها موضوع القديم والحديث في العصر العباسي , فاحببت أن اقدمها لكم كمادة اثرائية ..
... بالرغم من التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية التي حدثت بعد قيام دولة العباسيين , لم يحدث تطور في الأدب يتناسب مع هذه التحولات , الا بعد انقضاء وقت طويل وبعد رسوخ التغيرات الجديدة في كيان الدولة وفي النظام الاجتماعي و وبعد ان اصبحت التحولات الفكرية جزءا كيانيا من المجتمع العباسي.
ولكن ليس معنى ذلك أن الادب ظلّ واقفا لا يتحرك ولا يتجدد مع أحوال مجتمعه . فماذا نعني اذن حين نقول ٳنّ الأدب لم يتطور مع الانقلابات السياسية والاجتماعية التي حدثت للمجتمع العربي بعد قيام الدولة العباسية ؟
نعني اولا ان هذا التطور لم يحدث مباشرة بصورة ميكانيكية عفوية بمجرّد حدوث تلك الانقلابات , بل حدث على مراحل متطاولة متشابكة لا تظهر بينها الحدود والفواصل الحاسمة, اي ان القديم والجديد بقيا زمنا يتعايشان في المجتمع العباسي ولكن على اختلاف في مستوى كل منهما بالنسبة للاخر باختلاف المراحل.
ونعني ثانيا أن التطور الأدبي الكامل ما كان يمكن ان يحدث الا بعد صراع طويل بين القديم والجديد تبدو فيه الغلبة للقديم , في البداءة و ثمّ يتعادلان , ثم تظهر الغلبة للجديد بعد أن يكون قد نما واشتدّ ساعده واكتملت رجولته.
من مظاهر هذا الصراع مثلا, أن نرى فريقا من شعراء ذلك العصر لا يزال يجري على التقاليد الكلاسيكية لبناء القصيدة كما كانت في الجاهلية وصدر الاسلام والعصر الأموي من ضرورة الاستهلال بذكرى الرحيل ووصف الاطلال والابل ومشاهدة الصحراء وجوائها, ثمّ التخلص الى الموضوع المقصود فجأة مهما كان الموضوع مدحا او فخرا او رثاء , بل لو كان غزلا نسبيا , وان نرى الفريق يحرص على ان تكون لغة القصيدة ذاتها من لغة اهل البادية , ومن غريب هذه اللغة بالأخصّ وبصياغتها العفوية وبأوزانها الطويلة الرنانة وتراكيبها المجلجلة وموسيقاها الخارجية , كما تجلجل الأجراس بأعناق الابل في جوف الصحراء القفر الموحشة الساكنة .
وفي الوقت نفسه, وفي محيط بغداد او البصرة أو الكوفة , نرى فريقا من الشعراء يحاول التمرّد على هذه التقاليد , ولكنها محاولة ثائرة حينا وحذرة متحفظة وَجِلة أحيانا, وهذا الفريق الذي يحاول التمرد انما يمثل روح الجديد الذي يتحرر ويهتز مع حركة التطور العامة. وهو يريد ان يعبّر عن طبيعة هذه الحضارة الجديدة , باسلوبها الناعم وترفها, وبأشياء الحياة اليومية المستجدة فيها, وبأفكارها ومعانيها ومشاهدها العمرانية والطبيعية من قصور وحدائق وملاه وغلمان وقيان وغناء ورقص وخمر...
هذه المعركة ذاتها وجدت ميدانا رحبا أيضا في قضية الأوزان الشعرية , فٳنه حين شاع الغناء في مدن العراق وفي بغداد بالأخص , وأصبح حاجة يومية من حاجات أهل القصور , وتهيأت له العناصر البشرية من الجواري والقيان , والعناصر الأدبية من شعؤ الغناء الصوتية , هنا كان لا بدّ من معركة بين الحفاظ على أوزان الشعر الغنائي القديم , ومحاولة تحوير هذه الأوزان بحيث تتلاءم مع حاجة الغناء الجديد الى قصر المسافة بين النبرة والنبرة , والنغمة والنغمةو والفاصلة والفاصلة , والوقفة والوقفة , والى قصر السلّم الموسيقي نفسه بجملته , أي أن هذه الملاءمة احتاجت الى الأوزان الشعرية القصيرة بينما كان الغناء القديم يعتمد الى الأوزان الطويلة . ولكن يلاحظ ان المعركة في هذا الميدان لم تكن القوة فيها للقديم , بل يبدو أن الجديد هنا كان على جانب من القوة استطاع به ان يفرض نفسه على القديم دون أن يعاديه , وذلك بفضل توزيعه للأوزان بين أغراض الشعر , فالطويلة للأغراض الكلاسيكية كالمدح والرثاء وأمثالهما , والقصيرة لشعر الغناء . وهذه موجودة فعلا ضمن الأوزان الكلاسيكية نفسها, ولم يستحدث العباسيون منها سوى اثنين , هما المقتضب والمضارع.
على ان معركة القديم والجديد هذه لم تستمر حدّتها الا ريثما أخذ الجديد مكانه في الحياة العباسية واكتمل نموّه وتطوّره وذلك منذ القرن الرابع الهجري عهد أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء والشريف الرضّي , اذ نضجت الحركة العلمية واختمرت الحياة الاجتماعية والفكرية في عقول الأدباء ووجداناتهم حتى صارت الصلة بينهم وبين هذه الحياة صلة عقلية وجدانية كيانيّة , وصار الابداع الأدبي يصدر عن هذه الصلة تلقائيا دون قصد وتعمّد وتكلّف , وحينذاك استقرت الأساليب الأدبية شكلا ومضمونا على طابع وفق طابع العصر
مميزات العصر:
ظهر العصر العباسي باهتمام الدارسين، لأنه العصر الذي شهد امتزاج الثقافة العربية بغيرها من الثقافات، وتحولها إلى ثقافة إسلامية تلبي حاجات الأجناس العديدة التي اعتنقت الإسلام، فأصبح يمثل بالنسبة إليها حضارة جديدة تضاف إلى حضاراتها السابقة وتتوجها، كما شهد العصر تطوراً صخماً حققته الحياة الأدبية.
ويذكر هذا الاهتمام، بتلك العناية الشديدة التي وجهها الباحثون إلى العصر الجاهلي الذي يمثل البذرة المبكرة للعقلية العربية، والتي تعد دراسته ضرورية لمن يتصدى لدراسة هذه العقلية وتطورها على امتداد الأعصر المتعاقبة. ثم لما أُضفي عليه من هالة ضخمة جعلته المثل الأعلى للنتاج الأدبي.
ولا يمكن في هذه الدارسة أن تستوعب كل أو معظم القضايا الأدبية المثارة في العصر، ولا أن نتعرف على كل –أو أكثر أو أشهر- أدبائه. وحسبنا إشارات تعطى فكرة موجزة عن أدب العصر وبعض أدبائه المتميزين المجددين.
شكلت نشأة الدولة العباسية منعطفاً حاسماً في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفكرية والأدبية للدولة الإسلامية، فنحن نعلم أن الدولة الأموية كانت دولة عربية إسلامية في حين كانت الدولة العباسية أعجمية إسلامية.
ومن الطبيعي بعد ذلك أن ترى البذخ ينتشر، وخزائن الدولة تملأ، ولا أدل على ذلك من قول الرشيد مخاطباً السحاب: اذهبي أنى شئت، وأمطري أنى شئت فسيأتيني خراجك، ولك بعد ذلك أن تتصور هذه الحياة التي كان يتمتع بها الخلفاء وحواشيهم من الوزراء والقواد وكبار رجالات الدولة، ومن اتصل بهم من الفنانين شعراء ومغنين، و من علماء ومثقفين.
كل هذه الأحداث والصور أدت إلى بروز مصطلحات جديدة في الفكر الإسلامي من مثل الشعوبية والزندقة والمجون، والرق والزهد وعلم الكلام والاعتزال، أدت في مجموعها إلى ظهور كيانات اجتماعية وثقافية وحتى اقتصادية بحكم ما بلغته هذه الدولة من تعقيدات في أنظمة السياسة والحكم.
ولا نجد ضيراً بعد ذلك في تأكيد أثر هذا كله في الشعر العربي العباسي، فعلى الرغم من أن البادية كانت ما تزال تمد الحاضرة بكثير من الشعراء ذوي السليقة السليمة، وعلى الرغم من تمسك اللغويين بالشعر القديم تمسكاً شديداً، إلى أن مشيئة التطور كانت الغالب لنرى بعد ذلك تيارات من التجديد قادها أبو نواس وأبو تمام وبشار ومن لفّ لفهم.
وبذلك نقف الآن أمام شعر لا عهد لنا به من قبل. من حيث الشكل والمضمون فالسقطات كثرت والأوزان تلاعب بها الشعراء، واللغة لم تعد عربية أعرابية وفشا اللحن وظهرت مذاهب في الشعر وأصناف، كل ذلك أدى إلى التجديد في الموضوعات القديمة كالمديح والهجاء والغزل والوصف، فالمديح ها هنا أصبح نواة للشعر السياسي بمفهومه المتطور، ومثله الهجاء، وينتج من الوصف والغزل، شعر الخمريات والغلمان والمجون والزهد وغير ذلك.
المراجـــع:
1 - حركة التجديد في الشعر العباسي، محمد عبد العزيز الموافي، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، الطبعة السادسة، 1422هـ - 2001م.
2 - الموشح للمخرزباني، تحقيق على البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1965م.
-3 في الأدب العربي القديم "عصوره واتجاهاته وتطوره ونماذج مدروسة منه، محمد صالح الشنطي، المجلد الثاني "العصر العباسي والأندلسي" دار الأندلس للنشر والتوزيع، حائل، الطبعة الثانية، 1417هـ-1997م.
-4 العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة السادسة عشرة، 2004م.
-5 ابن المعتز: طبقات الشعراء تحقيق عبد الستار فراج، الطبعة الثالثة، دار المعارف، القاهرة 1976م.
-6 العقد الفريد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1965م
-7 الشعر والشعراء، تحقيق الأستاذ أحمد شاكر، الطبعة الثالثة، القاهرة 1977م.
-8 الموشح للمخرزباني، تحقيق على البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1965، ص384.
-9 في الأدب العربي القديم "عصوره واتجاهاته وتطوره ونماذج مدروسة منه، محمد صالح الشنطي، المجلد الثاني "العصر العباسي والأندلسي" دار الأندلس للنشر والتوزيع، حائل، الطبعة الثانية، 1417هـ-1997م، ص295.
-10 شوقي ضيف: العصر العباسي الأول، الطبعة الثانية ص160-161.
-11 ابن المعتز: طبقات الشعراء تحقيق عبد الستار فراج، الطبعة الثالثة، دار المعارف، القاهرة 1976، ص 172-176.
13- العقد الفريد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1965 1/260.
14- الشعر والشعراء، تحقيق الأستاذ أحمد شاكر، الطبعة الثالثة، القاهرة 1977.
الأحد، 25 أبريل 2010
abuhidaya25@blogger.com
بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة الإمام المهدي
كلية الآداب قسم اللغة العربية
الفرقة الثالثة “أ” مذكرة في مادة أصول النقد
إعداد الدكتور :
أبو هدايا ضو البيت
عن كتاب أصول النقد د.عصام قصبجي
المحاكاة عند الفلاسفة
أ-أفلاطون :
مفهوم المحاكاة عند أفلاطون :
هناك علاقة جوهرية بين النقد والمحاكاة منذ أن طلع أفلاطون بنظريته التي فسر بها حقائق الوجود إلى أن قال : “ شلي “ “ إن الشعر فن قائم على التقليد “ بيد أن المعضلة حقاً هي العلاقة بين النقد والفلسفة, وقد حمل أفلاطون على الشعر حملة ميتا فيزيقية نابعة من نظريته في المثل التي قيل إنه أراد بها :” أن تعبر عن طبيعة النظرة العقلية للعالم من حيث إنها تتخلى عن الطابع العرضي للظواهر المتغيرة “ وربما كانت صورة الكهف الشهيرة التي أوردها أفلاطون في جمهورية هي خير تعبير عن نظرية المثل من حيث صلتها بنظرية المحاكاة. فهو يرى أن ما نراه وندركه من الأشياء يشبه ما يدركه أناس ينظرون إلى ظلال نار على جدران الكهف و قد أداروا ظهورهم إلى فتحته التي تتأجج أمامها النار فهؤلاء إنما يدركون الظلال المرتسمة على جدران الكهف فيخالونها الحقيقة, فإذا ما تجردوا من قيود الظاهر و غادروا كهفهم أبصروا حقائق الأشياء في النور بعيداً عن الظلال. فكأنما عالم المثل هو الماهية الحقيقية التي تسبق الوجود وما الوجود إلا محاكاة حسية مثل الظلال من النار الحقيقية. وهكذا قد خُلق التمييز الفلسفي الأساسي بين المظهر والحقيقة. وأكدت أولوية عالم الأفكار وفوق عالم المحسوسات.
الفن عند أفلاطون :
فصل أفلاطون بين الفكر والفن وهو يرى أن الفنان إنما يحاكي ظاهرة العالم الحسي. وهو بذلك يسلبه عنصر التفكير، فيعد إبداعه الهاماً علوياً لا ينطوي على جهد ذهني خاص به. ويقول فايدروس “ غير أن هنالك نوعاً ثالثاً من الجذب والإلهام “ مصدره ربات الشعر إن صادف نفساً طاهرة رقيقة أيقظها فاستسلمت لنوبات تلهمها بقصائد وشعر تحي به العديد من بطولات الأقدمين “ و هنا يظهر لنا أن أفلاطون فرق بين الشاعر المحاكي والشاعر الملهم, فجعل للملهم مقاماً أسمى من المحكي وأغلب الظن أنه كان يزدري شعر المحاكاة خاصة من حيث إنه تصوير سلبي للظلال.
ويقول محمد غنيمي هلال معقباً على نظرية أفلاطون : الشاعر أوالفنان بعامة يعكس لنا في فنه خيالات الأشياء أومظاهرها لا جوهرها وهو في ذلك في مرتبة دون الفيلسوف بل دون مرتبة الصانع ...الخ، و بذلك وضع الشاعرفي رتبة دون الفيلسوف و دون مرتبة الصانع و ذلك لأن النجار مثلاً يحاول أن يقرب في صنعته لسرير خاص أو منضدة خاصة من درجة الكمال بتأمله في صورة السرير المثالية أو المنضدة المثالية وهي الصورة العقلية الثابته الخالدة التي هي من خلق الله بينما يحاول الشاعر وصف المنضدة فهو يحاكي منضدة هي بدورها صورة ناقصة للصورة المثالية. وكذلك شعراء المأسى “ الكوميديا و التداجيديا “ يحاكون الأشياء و الحوادث على هذه الصورة البعيدة من جوهر الحقيقة ومن صورها الخالده المثالية ولا يغوصون إلى الحقيقة وجوهراها .
فكرته في الأدب :
إذن فكرته عن الأدب هو مجرد مرآة تعكس الواقع الخيالي وهو تصوير ساذج للواقع وكذلك للبيئته من حوله ثم تسربت هذه الفكرة إلى النقد قديماً وحديثاً وإنما الأدب في عصرنا هذا يزين الواقع. ويقول “ إن المقلد لا يعرف شيئاً مهما عما يقلده، فالتقليد لهو وتسلية لا عمل جدي وإن الشاعر الملهم ما هو إلا متلقي يخفي ببلاغته الحقائق عن الناس” فهو لا يخدم قضيته لأنه يرى أن الفن ما لم تكن له غاية معرفية وقيمة حقيقه فهو ليس بفن عنده لأن الفن محاكاة لجوهر الأشياء.
معيار الفن عند أفلاطون:
هو الحقيقة وأن السبب الحقيقي لحملته على الشعر هو مقته البالغ للمحسوسات وتجريده لها من كل عنصر ذهني وانصرافه عن الأخلاق فالشعر عنده عدو الحقيق .
تلخيص فكرة أفلاطون :
الشعر يجب أن ينشد الحقيقة والأخلاق معاً “ وخيانة الحقيقة خطيئة” ولا نسمح لشاعر أن يقول إن الله سبب العقاب الذي آل إلى شقاء عبده “ وبهذا الفهم يسعى أفلاطون إلى طهارة الحياة ويهاجم كل ما يمكن أن يسئ إلى هذه الطهارة, والشعر كما عهدة كان يسئ إليها بتصوير الآله على نحو ضار لذا يقول :" لا تنسى أن الشعر لا يباح في الدولة إلا في تسبيح الله ومدح الصلاح " أما الإدعاء أن الإ له الصالح علة شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوة، ومن هنا تبدو حكمة النظرة الفلسفية للأدب عنده، فهي تنشد القيم والأخلاق وهذا واضح من خلال أراءة .
الوحدة العضوية :
تحدث أفلاطون عن ضرورة تماسك الهمل الأدبي فتناول الوحدة العضوية الحية في الفن وهذا يدل على أن نظرية المثل تحض على التخلي عن الطابع العرضي قائلاً : “ يجب على كل حديث أن يكون مكوناً على شكل كائن حي له جسم خاص به بحيث لا تنقصه رأس ولا أقدام بل لا بد له من وسط مع وجود طرفين يكونان قد ركبا بشكل يتفق بعضه بعضاً ومع الكل" صفوة القول إن المحاكاة عند أفلاطون هي تصوير لظاهر الطبيعة على نحو يشبه فيه الشاعر الرسام الذي يحاكي الشي ولا يحاكي “المعنى” أوالمثال فيتأخر بذلك عن الصانع الذي يحاكي مثلاً عقلياً إلهياً ثانياً .
أرسطو
مفهوم المحاكاة عند أرسطو :
اختلف مفهوم المحاكاة عند أرسطو عن مفهوم المحاكاة عند أفلاطون اختلافاً جوهرياً نابع من اختلاف النظرة الفلسفية, فأفلاطون كان ذا نزعة صوفية غائية وفكرة اعتقادي مع عدم تحققه لموازنة الخير والشر، فتبدو أفكاره مثالية لا يمكن تحققها في الواقع, وفي جانب آخر بنى أرسطو أفكاره على التجربة العملية التي تصلح للتطبيق في أرض الواقع. لذلك لم يذعن لنظرية أستاذة في المثل .
الفن عند أرسطو :
يرى أرسطو أن الفن حقيقة هو محاكاة للطبيعة ولكنه لم يربط محاكاة الفن للطبيعة بمفاهيم المثل كما فعل أفلاطون لأن الفن عنده يحاكي الطبيعة ولكن الطبيعة ليست محاكاة لعالم عقلي. وهو يحاكيها بعد فهمها على نحو متكامل منظمة وإذا كانت المحاكاة عند أفلاطون نظرية فلسفية فإنها عند أرسطو نظرية فنية . فالشاعر ليس حامل مرآة ينظر إلى مظاهر الأشياء فيها وإنما يحاكي ما يمكن أن يكون لا ما هو كائن.
ويقول إن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه, و ما هو ممكن على مقتضى الرجحان أوالضرورة فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أومنثور بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه ومن هنا كان الشعر أميل إلى قول الكليات على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. ومن هنا كان تفضيل أرسطو للشعراء ووضعهم في طبقة عليا وإن أرسطو استوحى فكرة ممن سبقوه قديماً كما يعلق على ذلك ديدرو فيما بعد قائلاً:" أن الفنان لا يحاكي الطبيعة ولكنه يجملها، فالفن يجمل الطبيعة، ويبدو كأنه يضرب المثل لكي تحاكيه الطبيعة ولا يحاكيها، والفنان لا يقتصر على رسم الواقعالمباشر لظاهر الشياء ولكنه يعبر عمّا هو جوهري فيها هكذا فجوهرالفن عند أرسطوهو محاكاة الطبيعة. وعلى ضوء ذلك فإن أرسطو يجعل الشعر في مقام علياً إلى جوار الفلسفة ولم يجعله في الدرك الأسفل بعد الصانع كما فعل أفلاطون.
المحاكاة في الفنون الأخرى :
المحاكاة في الفنون الأخرى عند أرسطو هي محاكاة للجوهر أي محاكاة للفعل الإنساني ويقول أرسطو في الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والرقص" الشعر إذا قيس بالفنون لا يقاس بالتصوير الذي تظهر فيه شبهه المحاكاة المطابقة للأصل إنما يقاس بالرقص والموسيقى ونحن نعرف كيف يغاير الراقص والموسيقار في محاكاته للطبيعة, وعلى شاكلتها يغاير الشاعر في المحاكاة" ومعنى ذلك أن الشعر ليس محاكاة مختلفة عن محاكاة أخرى أومحاكاة بواسطة كما هو واضح في نظرية المثل بل هو محاكاة للطبيعة تقف عندها ولا تتعداها إلى شي وراءها.
إذن هي ليست محاكاة آلية ساذجة بل محاكاة تظهر فيها موهبة الشاعر وأفكاره وخيالاته, فهي محاكاة تماثل الرقص والموسيقى .
أنواع المحاكاة :
يقول أرسطو : شعر الملاحم وشعر التداجيديا والكوميديا والدثورامبي وأكثر ما يكون في الصفر في الناي واللعب بالقيثار, كل تلك بوجه عام هي أنواع المحاكاة ويفترق بعضها عن بعض على ثلاثة: أما باختلاف ما يحكي به, أوباختلاف ما يحاكي, أوباختلاف طريقة المحاكاة, وجميع هذه الفنون تحدث المحاكاة بالوزن والقول والإيقاع أما بواحد منها على إنفراد أوبها مجتمعه, ويقول الوزن ليس جوهر الشعر و إنما جوهر المحاكاة .
وقد فضل أرسطو الشعر الملحمي تبعاً لاتجاه الحضارة الإغريقية ولأنه محاكاة لجوهر الفعل الإنساني وهو يرى أن الفعل الإنساني هو روح الشعر.
نظرية التطهير عند أرسطو:
ولعل النزعة الفلسفية في النفور من الجزيئات والتعلق بالكليات كانت علة انصراف الإغريق إلى الشعر الملحمي عن الغنائي, فالملحمة أدب موضعي يحاكي الفعل الإنساني على نحو منظم خاضع لقانون الإحتمال والضرورة بغية تطهير النفس من إنفعالاتها الضارة. أما الشعر الغنائي فتغلب عليه محاكاة المشاعر الفردية على نحو يفضي إلى الجزئية بل أنه قد يفضي إلى ضرب من الجمود بابتعاده عن محاكاة الفعل الممكن بما يعنيه من تطور وشمول.
الوحدة العضوية عند أرسطوا :
هي تلك الوحدة القائمة بمقتضى الضرورة والرجحان المعبرة عن فعل واحد تنتظم أجزاؤه بحيث لا يمكن نزع أحدهما, و يظهر ذلك في قوله الثاني: المحاكاة الروائية ينبغي أن تدور حول فعل واحد تام مكتمل له أول ووسط وآخر حتى تكون كالحيوان التام كما أنه في سائر الفنون المحاكية تكون المحاكاة الواحدة لموضوع واحد كذلك يجب أن تحاكي القصة عملا واحد وأن يكون هذا العمل الواحد تاماً وأن تنتظم أجزاء الأفعال فيه بحيث أنه لوغير جزء أونزع لا نفرط الكل واضطرب .
الماسأة و الملهاة :
فهو يفسر الملهاة والمأساة من خلال بحثه عنها في الطبيعة الإنسانية فيقول: إن المحكاة أمر فطري موجود في النّاس منذ الصغر والإنسان يفترق عن سائر الأحياء بأنه أكثرها محاكاة وأنه يتعلم أول ما يتعلم بطريق المحاكاة و دليل على ذلك ما يقع فعلاً : فإننا نلتذ بالصور الدقيقة البالغة للأشياء التي نتألم لرويتها كأشكال الحيوانات الدنيئة والجثث الميته ....الخ.
معيار الشعر عند أرسطو :
يقول أرسطو إن الشعر ينبغي أن ينشد الحقيقة بحسب مقدرته الفنية وبحسب تصوره للممكن المحتمل والمستحيل مع البقاء ضمن المألوف لأن ذلك يجعل من الشعر تعبيراً موضعياً يبدو بعيداً عن ذات الشاعر وهو الذي أفضى إلى القول بالوحدة الموضعية للعمل الشعري .
مفهوم المحاكاة عند الفلاسفة المسلمين :
لما كان لكل حضارة نظرتها الخاصة إلى الحياة بحيث تولد وهي تحمل معها صورة وجودها, فقد كان من الصعب على الحضارة الإسلامية الناشئة أن تفهم صورة الحضارات الأخرى على نحو حقيقي صادق لما تنطوي عليه من عناصر غريبة، فإنه غالباً ما يكون هذا الفهم ناقصاً كاذباً أومحرفاً خاضعاً لطابع حضارته الخاصة. فقد حاول “ متى بن يونس " منذ البداية تطبيق ظواهر الشعر اليوناني على الشعر العربي فترجم الماسأة بالمديح, والملهاة بالهجاء, و ذلك لأنه لم يكن يتصور نمطاً من الشعر يختلف من النمط العربي.
ولا غرابة أن العرب ترجموا أفكار أرسطو ولكنهم فهموا أفكار أفلاطون, ذلك أن مفهوم أفلاطون عن المحاكاة كان أقرب إلى طبيعة الشعر العربي, ولكن المعضلة حقاً هي أيضاً علة حملته على الشعر, فكأنّ النقاد العرب أقروا أفلاطون على أن الشعر تصوير حسي لمظاهر الأشياء ولكنهم لم يجعلوا ذلك سبباً في إزدراء الشعر و إنما جعلوه تبعاً لطابع شعرهم ومظهر الأبداع الفني.
الفارابي : مفهوم المحاكاة :
الفارابي أحد الفلاسفة المسلمين الذين حاولوا تطوير المحاكاة وذلك من خلال مقالته التي افترض أنها تلخيص لكناب أرسطو “ فن الشعر" و استخلاصه منهجاً ليطبق على الأدب وهو بذلك تأثر بالفكر الإفلاطوني قائلاً “ إن الأقاويل الشعرية كاذبة لامحالة، ما وقع منها في ذهن السامعين الشي المعبر عنه بدل القول وما يوقع فيه المحاكي للشي" وبذلك تنقسم محاكاة الشيء إلى ضربين؛س إلى ما هو أتم محاكاة، وإلى ما هو أنقص محاكاة .
الإيهام في الشعر :
تحدث الفارابي عن الإيهام الشعري أي غموض الكلام وحاول توضيح مفهوم الإيهام أي وهم المتلقي بغير الحقيقة من خلال إيهامه، فإن الإيهام يقع بما يقع فيه الإنسان من الخطأ وذلك بأن يرى الإنسان القمر من خلال الغيوم السارية فيخاله سارياً ولكن القمر لا يسير وإنما التي تسير هي الغيوم. أما محاكاة الشئ للشئ فهي كمن يأخذ مرآة فيعكس فيها الأشياء. وهذا فكر أفلاطوني للفارابي نابع من معطيات الحضارة الإسلامية لأن أفلاطون ينشد الحقيقة والحضارة الإسلامية تدعوا إلى القيم الفاضلة التي تبني عليها الحقيقة. و تعتبر ملاحظة الدكتور “إحسان عباس “ وتمييزه الشعر عن القول البراهاني ملاحظة قيمة
مقارنه الشعر بالفنون :
يرى الفارابي أن المحاكاة هي جوهر الشعر وحاول أن يلتمس من الفنون الأخرى فن يشبه الشعر فعقد مقارنة بين الشعر والنحت والرسم أي المحاكاة الظاهرية لأنه يرى أن هذه المحاكاة تكون لظاهر الأشياء، والشعر أقوال تحاكي ظاهر الأشياء، إلا أنه أغفل مقارنة الشعر بفن الموسيقى على الرغم من أنه كان بصيراً بالموسيقا عملاً ونظراً فإنه لم يفهم العلاقة بينهما. يقول إن المحاكاة قد تكون بالفعل كما في النحت وقد تكون بقول كما في الشعر ثم يذهب مره أخرى ويعقد مقارنة بين الشعر والرسم يقول إن بين أهل هذه الصناعة وبين أهل التزويق مناسبة لكنّهما مختلفان في مادة الصناعة، ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها أونقول: " إن بين الفاعلين والصورتين والغرضين تشابهاً، ذلك أن موضع هذه الصناعة الأقاويل (ويقصد بها صناعة الشعر) وموضوع تلك الاصباغ ويقصد بها ( صناعة الرسم ) وإن بين كليهما فرقاً إلا أن فعليهما جميعاً التشبيه وغرضيهما إيقاع المحاكايات في أوهام الناس وحواسهم" وكل منهم يحاكي الطبيعة ويسعى لتقريب الطبيعة في أوهام الناس، وذلك أن المحاكاة تقع في ظواهر الأشياء وهنا يتضح تأثر الفارابي بالفكر الأفلاطوني أيضاً وهو عدم الغوص في جوهر الأشياء وذلك من فهم الفارابي لكتاب فن الشعر لأرسطو.
ملاحظات الفارابي :
قد أشار الفارابي إلى ملاحظة قيم كانت ستغير وجه النقد لو فهمها الناقد وهي ووردت في حديث ابن رشد وهي فكرة الفارابي التي تقول “ إن كانت أكثر أشعار العرب -كما يقول أبو نصر – في النهم والكدية أي في أخذ المال عن طريق الاستعطاف والاستجداء أي الإقناع وفي شهوة الغرائز. فهاتين مرفوضتين في الحضارة الإسلامية لذلك يرى أن الشعر ضار بالمجتمع ويرى كذلك إبعاد الصغار عن شعر الغزل لأنه يفسد الولدان وبذلك حصر الشعر العربي على طرفين, طرف الحواس من الناحية الفنية وطرف الشهوات من الناحية الخلقية وهنا يظهر تأثر الفارابي بالفكر الأفلاطوني أيضاً.
إذن ما دفع الفارابي أن يحمل على الشعر العربي القديم هو الأخلاق، فقال إنه شعر لا ينشد الفضيلة بل يحض على إثارة الغرائز المادية .
اطلاعه على أشعارالأمم الأخرى:
اطلع الفارابي على أشعار المم الأخرى ووجد فيها ما يدعوا إلى صلاح المجتمع بخلاف الشعر العربي، ثم حاول التحدث عن الكوميديا والتراجيديا و جاء تفضيله على النظرة الأفلاطونية. يقول أما “ الطراغوزيا “ وهي الماسأة عند اليونان فهو نوع من الشعر له وزن معلوم يلتذ به كل من سمعه من الناس, لأو تلاة ويذكر فيه الخير والأمور المحمودة والمحروص عليها ويمدح بها مدبرو المدن كالفلاسفة في المدن الفاضلة. أما ديثرامبي “ الشعر الغنائي “ فهو نوع له وزن ضعف وزن “ الطراغوزيا “ ويذكر فيه الخير والأمور المحمودة والفضائل الإنسانية ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولكن تذكر فيه الخيرات الكلية وهو ما قال عنه أفلاطون الشعر “ التسبيحي “ وهذا يرجع إلى نزعته الصوفية الخلقية الواضحة.
المحاكاة و الوزن :
هذه ملاحظه جوهرية قيمة لو عمل بها النقاد الذين جاءوا من بعد الفارابي لأخرجوا النقد والشعر العربي القديم من دائرة الحسية إلى دائرة الحس الإنساني قائلاً : إن الشعر يعتمد على عنصرين جوهريين هما المحاكاة والوزن, أما الوزن فهو ضروري لكي يميز الشعر عن القول الشعري بيد أنه مع ذلك ليس من ضرورة المحاكاة التي تبقى أهم العنصرين، والمعضلة هي أن الناس أولعو بالوزن حتى لم يعد الشعراء يبالون أن يكون الشعر محاكيا إذا كان موزوناً وهكذا أصبحت مشكلة الشعر تنحصر في تقليب الوزن عن المحاكاة. الحق أن للشعر عنصرين مهمين هما المحاكاة والوزن، فالذي يفرق بين الشعر والأقوال الشعرية هو الشاعريه؛ أي المحاكاة والوزن لذا نجد أن المنظومات تخلوا من المحاكاة، وهذه لم تظهر إلا في العصر الحديث لأن القصيدة تعتمد على الكلام الداخلي للمحاكاة وتخلوا من الوزن وهي ظهرت عند الفارابي وحده وهي قريبة من أفكار أرسطو لأنها لا تحاكي أوزان الأنسان “ الأقوال المنظومة “
مفهوم الصدق و الكذب : “ التطهير “ :
تحدث الفارابي عن مفهمومي الصدق والكذب وتناول فكرة التطهير عند أرسطو قائلاً: “ والمحاكاة في الشعر ليست ولهواً أولعباً وإنّما هي تخييل يفضي إلى فعل معين فإن الإنسان كثيراً ما تتبع أفعاله تخيلاته وكثيراً ما يكون ظنه أوعلمه مضاد لتخيله فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه به أوعلمه فلذلك صار الغرض المقصود من الأقاويل المخيلة أن تنهض بالسماح نحو الشي الذي خيل له فيه أمر سواء صدق ما تخيله إليه من ذلك أو لا, كان الأمر في الحقيقة على ما قيل أم لم يخيل. إن الأقوال الشعرية قد تخيل أقوال تطابق الواقع أو لا تطابقه والمهم فيها تحريك الإنفعال الإنساني وتحركه بما تحدثه فيه من انفعال، وهنا اتفق الفارابي مع أرسطو في محاكاة الفعل الإنساني التي تؤثر في المتلقي وتثير فيه الانفعالات المطهرة سواء كانت مأساة أم ملهاة ويظهر ذلك في قصيدة “ ليلة ولاجئه “ حيث بث الشاعر فيها كثيراً من الانفعالات والعواطف التي استطاع من خلالها من كسب للتعاطف مع هذه القضية.
الإلهام في الشعر :
تحدث الفارابي عن الصنعة والإلهام كان الفارابي بصيراً بصنعة الشعر “ ومفهوم الصنعة عند الفارابي يرى أن الشاعر يجب أن يكون بصيراً بدقائقها عارفاً بخواصها و يرى أن الإلهام وحدة لا يكفي ولا بد أن يعرف الشاعر كيف يصب هذا الإلهام في قالب فني، وصناعة الشعر ليست خالية من الإحساس وإنما يجب أن يكون الشاعر ملما بعناصر الوزن ويكون شعره نابعاً من الإحساس، فيقول: " أحمد أنواع الشعر يفسر مفهوم الصنعة لأنه يرى أن الشعر يجب أن ينبع من داخل صاحبه “ فبهذا تحدث عن الصدق الفني.
ولا يعتمد على نماذج سبقته فيكررها، ويلاحظ أن الفارابي يتكل على أفلاطون وأرسطو كما قد حاول مزاوجتهما إلا أن أراءه لم تتح لها الفرصة للإفادة منها وخاصة قوله “ جانب الوزن والمحاكاة والكذب والصنعة والصدق الفني إلا ما كان عند المتنبي من خلال لقاء به عند سيف الدولة .
ابن رشد
مفهوم المحاكاة :
أراد ابن رشد أن يفهم المحاكاة عن أرسطو ولكنه منذ البدء حاول أن يطبق أفكار أرسطو على الشعر العربي دون أن يفلسف ما فلسفه الفارابي فهجم على الشعر بقوله “ إن كل قول شعري فهو إما هجاء, وإما مديح “ لأنه حاول أن يفهم كلام أرسطو عن الملهاة والماسأة ولم يقتصر على وضع الشعر فقط في دائرة المديح و الهجاء. وإنما جعل الفنون جميعها في هذه الدائرة، وهنا تظهر مغالطته وارتكابه للخطأ، لأنه ترجم المحاكاة مديح وهجاء – ثم قال إن الشعر هو التشبيه ولم يدع لنا فرصة للتساؤل عمّا يعنيه بالتخيل أوالمحاكاة وحاول تطبيق التخيل أي التشبيه بمفهومه العام وذلك من خلال قوله: “ الأقاويل الشعرية هي الأقاويل المخيلة وأصناف التخيل والتشبيه ثلاثة : اثنان بسيطان, وثالث مركب منها أما الاثنان البسيطان فأحدهما تشبيه شي وتمثيله به وذلك يكون في لسان لسان بلفظ خاصه عندهم مثل كأنّ, وأخال, و ما أشبه ذلك في لسان العرب وهي التي تسمى عندهم حروف التشبيه ....الخ “
ينبغي أن تعلم أن هذا القسم تدخل فيه الأنواع التي يسميها أهل زماننا استعارة وكناية، وهو فهم أن المحاكاة هي تشبيه كما فهم الفارابي حيث أصبحت المحاكاة هي فنون البلاغة التي تحاكي ظاهرة الأشياء وهنا اختلف عن أفلاطون. ثم تحدث عن المحاكاة من خلال حديثه عن التشبيه فتناول الماسأة والملهاة وعرف الملهاة أي صناعة المديح على أنها تقوم من مشبه ومشبه به, فالتشبيه يتم بالقول المخيل والوزن واللحن والمشبه به أوالمحاكى هي العادات والاعتقادات والنظر“ الاستدلال “ و لكنه عندما جاء إلى الشعر العربي و جد أنه لا يتضمن إلا المديح فكيف يطبق ذلك على الشعر العربي يقول ابن رشد فيما يفترض أنه تلخيص لكلام أرسطو :" يجب أن تكون أجزاء صناعة المديح ستة؛ الأقاويل الخرافية, العادات والوزن, الاعتقادات, النظر, اللحن, والدليل على ذلك أن كل قول شعري ينقسم إلى مشبه ومشبه به والذي يشبه به ثلاثة : المحاكاة, والوزن, واللحن والذي يشبه في المديح ثلاثة أيضاً العادات والاعتقادات والنظر “ الاستدلال “ بصواب الاعتقاد فتكون أجزاء صناعة المديح بالضرورة ستة وقال ابن رشد إنها لا تطبق على الشعر العربي ولا توجد فيه إنما نجدها في كتب الوعظ والقصص الشعرية وهي إشارة خطيرة من ابن رشد وذلك لاطلاعة على الشعر اليوناني القديم.
فقد وجد الفضيلة في الملاحم وضرب نموذجاً بقصة سيدنا يوسف وزوجه العزيز زليخة فهي تحض على الفعل الإنساني الخير وتكشف الجانب السئ في الإنسان إلا أن هذا حدث في العصر الحديث في دراسة القصة لذا لم يستفيد النقد الأدبي القديم من هذه الآراء.
فكرة التطهير :
أدرك ابن رشد فكرة التطهير من خلال ما يمكن أن تثيرة المحاكاة “ من الرحمة والخوف “ وقد ذهب إلى أن التطهير يتم بمحاكاة النفوس لما في الفاضلين من نقاء قال في تعريف للماسأة “ المديح “ أنها محاكاه للعمل الأرادي الفاضل الكامل وأن غايتها التطهير كما يقول محمد غنيمي هلال لأن تعتدل هذه الأنفعالات في الإنسان دون أن تمحى وفي هذا تكمن القيم الأخلاقية للانفعالات التي تثيرها فينا المسرحيات والغاية خلقية ودينية وهي الحث على الفضائل الخلقية من خلال مشاعر الحزن التي تعتري الإنسان.
الصدق والكذب عند ابن رشد و علاقته بالأقاويل الشعرية :
يقول ابن رشد: إن الغلو الكاذب من ضروب المحاكاة ولكنه يحمل كذب ليس فيه صدق “ ثم يضيف الغلو الكاذب يوجد في أشعار العرب كثيراً ولا يوجد مثله في الكتاب العزيز إذا كان ينزل من هذا الجنس من القول “ يعني الشعر “ منزله الكلام السفسطائي من البرهان ولكن قد يوجد بالمطبوع من الشعراء منه شي محمود لكن المعضلة أنه جعل الخيال محاكاة لأنه حاول فهم أرسطو من خلال أفلاطون.
الوحدة الموضعية :
تحدث ابن رشد عن الوحدة الموضعية وحاول أن يفهم فكرة العقدة والحل وقال إن العقدة في الشعر العربي تسمى بالرباط “ البنية “ كالنسيب والوصف أوالمديح ثم حاول أن يفهم الحل وقال إن الحل نوع من الرباط يستخدمه العرب بكثرة في أشعارهم وهو ربط النسيب بالمديح كقول أبي الطيب .
مرت بنا بين تربتها فقلت لـــها من أين جانس هذا الشاد العربـــا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ليث الشرى, وهو من عجل إذا انتسبا
وأما الحل فهو موجود في أشعار العرب مثل قول زهير “ دع ذا وعد القول في هرم “ والحل هو الإنتباه إلى الإنتقال المفاجئ
أسباب ميل الفلاسفة و النفاد و المسلمين إلى مفهوم أفلاطون
كان افلاطون أقرب إلى أفكار العرب لأنه أقرب إلى أشعارهم لأنهم ربطو القرابة بطبيعة النظرة إلى الفن الشعري, ولأن نظرتهم إلى الفن الشعري مطابقة لنظرته على الرغم من اختلاف أحكامهم الفنية المستنبطة من هذه النظرة.
ومهما يكن فإن هناك ثلاثة أمور عضدت اتجاه النقد الفلسفي إلى محاكاة أفلاطون وهي غلبة الشعر الغنائي, وأجلال الشعر الجاهلي, وربط الشعر بالفنون النفعية عموماً و بالتصوير خصوصاً.
غلبة الشعر : الشعر الغنائي :
هو شعر يعبر عن أحاسيس الشاعر ولا يتناول قضايا المجتمع إلا ما قل، دائماً نضع نقيض له الشعر الملحمي.
كان لغلبة الشعر الغنائي عند العرب أثراً كبيراً مما أدى إلى عدم فهمهم للنقد اليوناني عامة وللأرسطي خصوصاً. وذلك لأن أرسطو وضع قواعد الشعر الموضعي الّذي تولد عن الشعر الغنائي, ويقول “ إن من كانوا مجبولين عليها منذ البدء – و يقصد المحاكاة – أخذوا يرقون بها قليلاً قليلاً حتى ولدوا الشعر من الأقوال المرتجلة ثم أنقسم الشعر تبعاً لا ختلاف الأفراد من قائليه.
فضل أفلاطون الشعر الغنائي لأنه يحتوي على غاية خلقية وهي التغني بالبطولات. أما أرسطو فقد أعرض عنه لأنه يعتبر الفعل جوهر المحاكاة, لذلك لم يدخله في قضاياه الأدبية .
أما النقاد العرب فقد وجدوا أن الشعر الغنابي ينشد الفردية وكذلك شعرهم فهو يتغنى بالذات وذلك تبعاً للنزعة الفردية الطاغية, فهم يرون أن الشعر هو مرآة تعكس الشعور الفردي وما على الشاعر إلا أن يرغب أو يطرب أو يرهب لكي يتدفق بما يخاله من مشاعر – فليس هنالك مجال لعناصر الشعر المسرحي" التحول – التعرف - العقدة – الحل “ والدليل على ذلك أن ابن رشد عندما حاول تطبيق التطهير قال ذلك لا يوجد إلا في القصص القرآن وما جاء عند زهير في معلقته داعية السلام جاء عرضاً وأنه لم يخرج عن النمط السائد، بل إن الشاعر العربي قد اغفل فيما بعد الاهتمام بذاته لينتقل إلى الاهتمام بالتقليد في أمرين: أولهما تقليد الأشياء الظاهرة في الطبيعة، وثانيهما تقليد الأنماط الظاهرة في الفن وبذلك ضاقت أمامه سبل الخيال الشعري فراح يدور في فلك التشبيه، فهو الفن الّذي كان سائداً.
أجلال الشعر الجاهلي :
نعم الشعر الجاهلي بالإجلال عند النقاد العرب ويرجع ذلك كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي “إلى أن النقد العربي ابتلى منذ عهد مبكر بعلماء اللغة الذين كانوا يجلون الشعر الجاهلي إجلالاً عظيماً لأنه مصدر علومهم الوحيد تقريباً, فلم يأبهوا للمعاني الإنسانية فيه ويقول عن ذلك :” والشي المؤلم حقاً أن الشعر دخل منذ البداية في باب علوم العربية لأنه كان يدرس لاستخلاص الشواهد النحوية والصرفية واللغوية فوجدت هوة هائلة بين علماء العربية وبين علماء الثقافة الإنسانية” وإن الشعر الجاهلي يمثل النشأ الأولى للشعر العربي ويقول الدكتور مصطفى ناصف “ نشأ الأدب العربي من الأدب الجاهلي, وإن الأدب العربي ينبع من الأدب الجاهلي ويصب أحياناً في تربة الأدب الجاهلي أيضاً “ فالشعر هو رمز ذواتهم ورمز حضارتهم وأي مساس به هو مساس بالحضارة نفسها.
وقد نظر النقاد العرب إلى الشعر الجاهلي نظرة محاكاة والأنموذج الّذي يجب أن يحتذيه الشعراء وإلا تعرضوا للنقد. ويقول عن ذلك الدكتور مصطفى ناصف: " ليس منا من لا يذكر فكره عمود الشعر, فقد كان عمود الشعر عندهم يشبه عمود الدين والحياد عنه بدعه من البدع, أوضلال ينبغي أن يتناول بالكراهة"
والمسلم به إذن ذلك الأثر الطاغي الذي طبع به الشعر الجاهلي الشعر العربي وإن ما ينطوي عليه الشعر الجاهلي من طابع حسي, جزئي ظاهري لا يأبه غالباً للفكر الإنساني ولا يحاول النفاذ إلى جوهر الظواهر المرئية.
ندرك كيف تأثر النقاد العرب بآراء أفلاطون وأخلدوا إلى مفهومه في طبيعة المحاكاة وكان ذلك وراء جفاف النقد وجمودة على طريقة واحدة هي الطريقة الجاهلية في فهم الشعر.
ينبغي أن نذكر هنا أن النقاد قديماً أحجموا تماماً عن الإصغاء إلى الشعر المحدث مهما بلغ من الإبداع وتروى في ذلك حكايات طريفة منها قول أبي عمر بن العلاء حين أعجبه بعض شعر جرير:" لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته" وقال الأصمعي:" جلست إليه ثماني حجج – يعني أبا عمر بن العلاء- فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فمن عندهم، وليس النمط واحداً، ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح" ويقولشوقي:" إنما جاءتهم هذه العصبية من وظيفتهم، فقد كانوا يعدون أنفسهم حماة اللغة، والحرس على تراثها، ولم يكن يهمهم من الشعر إلا المثل والشاهد في دراستهم".
ربط الشعر بالفنون عامة والتصوير خاصة :
ثمة عامل وجهه أذهان النفاد إلى مفهوم أفلاطون وحال دون إدراكهم لمفهوم أرسطوا، وهو العلاقة بين الشعر والفنون الأخرى وقد ذهب أرسطوا إلى أن الفنون جميعاً تحاكي جوهر الأشياء وإن اختلفت في وسائلها.
إلا أنهم جعلوا الشعر كالتصوير واغلفوا الرقص والموسيقى وذلك لإجلالهم فن التصوير أو إلى غموض الصلة بين الشعر والموسيقا في أذهانهم، فقد يرجع ذلك إلى بيئتهم وأسهامها في غموض هذه الصلة لأن النقاد يتكلمون عن التصوير من خلال النسج والنقش, والصياغة والتجارة وهي كلها فنون مرئية, و يقصدون بها ربط الشعر بالفنون وغاب عنهم ربطه بالموسيقى التي تتسرب بايحائها إلى الشعور, بينما يفتن التصوير مجال العين المرئي وخاصة إذا اقترن بالمادة المشكلة كالخاتمة والثوب وذلك يفضي إلى إثار اللفظ على المعنى.
من هنا بدأ انصراف النقاد إلى فرضية أن التصوير أنما يظهر في اللفظ أي الشكل دون المعنى ثم أصبح اللفظ مناط الجهد ومجلى الفن لأن النقاد يرون أن الشعر فن يرجع إلى اللغة لا إلى الإنسان.
وقد أولع النقاد بعقد الصلة بين فن الشعر وفن التصوير ويقول الجاحظ:" إن الشعر “ صناعة أوصياغة “ وضرب من النسيج وجنس من التصوير وربما أشار ذلك إلى تغليب اللفظ على المعنى ويرجع شوقي ضيف الأسلوب لا الألفاظ. والذي يعنينا هنا هو ربط الشعر بالنسج والتصوير على نحو أصبح فيما بعد حجة النقاد على اختلاف مذاهبهم. ويقول قدامه:“ إن المعاني للشعر بمنزلة المادة المصنوعة مثل الخشب للنجار والفضة للصياغة “ أما ابن سنان الحفاجي فقد أضفى على المقارنة صيغة فلسفية وقصرها على فن النجارة, وقد نبه عبد القاهر إلى أنه الأمر لايرجع إلى المعنى ولا إلى اللفظ بل إلى النظم .
ويلاحظ أنهم لم يكونو يريدون بالتصوير فنون النحت والرسم وإنما يريدون تلك الفنون العملية النفعية القائمة على الزخرفه والتجانس بين الأشكال والألوان والرسم على نحو ما يكون فيه للبصر المقام الأول وسواء كان النقد خاضعاً في ذلك للشعر أم موجهاً له فقد أفضى ذلك إلى جمود الشعر حول المفهوم الحسي المرئي للمحاكاة. وربما قيل إن علاقة الشعر بالتصوير لا تفضي بالضرورة إلى المفهوم الحسي الذي يقصر الخيال على الصنعة الزخرفيه.
ومن هنا ينبغي لنا أن نتذكر أن معظم ما دار في كلام النقاد حول التصوير والتخييل إنما يرجع إلى مفهوم التشبيه فالتشبيه عندهم هو روح الشعر.
مفهوم المحاكاة عند النقاد العرب
المحاكاة و التشبيه :
لا يخفي أن الفهم الذي وصل إلى أذهان النقاد العرب هو ربط المحاكاه بالتشبيه نتيجة لغنائية الشعر. وإذا وجدنا الترجمة الحرفية لكتاب أرسطوا “ فن الشعر “ نجد أن المحاكاة هي التشبيه عند الفارابي و ابن رشد ثم انتقل هذا الفهم إلى أذهان النقاد والعرب.
الزمخشري :
هذا الفهم نجده عند الزمخشري في “ كتابه الكشاف” وهو دراسة القرآن دراسة بيانية إلا أن هنالك بعض الآيات قد استعصت عليه فأولها عبر فهمه وقد وقف عند الآيات نحو قوله تعالى:﴿ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا﴾ قال الزمخشري معنى ذلك “ أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته, ووحدانيته, وشهدت بها عقولهم, وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلنا مخيرة بين الضلالة والهدى “ ويرى الدكتور مصطفى ناصف:“ أن صعوبة وجود حدى المجاز في بعض الآيات، هي التي قادة الزمخشري إلى تعبير التخييل الّذي يجرد ظاهر الآيات من تجسيم مادي، ويردها إلى معنى عقلي، فالتخييل إذن هو تصوير حسي لمعنى ذهني، أوإذا كان كناية لم يجد ما كني عنه وما هي العلاقة، إذاً على الأنسان إعمال ذهنه وخياله لإدراك المعنى.
ونفهم من هذا أن الزمخشري يبحث عن مشبه ومشبه به في الكلام وهذا هو الأسلوب النقدي، هو أحد النقاد الذين اتبعوا النهج الإسلوب للنقد في دراستهم للنصوص في فترة مبكرة.
قدامة بن جعفر :
جعل قدامى بن جعفر من المحاكاة وصف ويقول:" الوصف إنما هو ذكر الشي كما فيه من الأحوال والهيئات, ولما كان أكثر وصف الشعراء, إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها ثم بأظهرها فيه, وأولاها حتى يحكيه بشعره و يمثله للحس بنعته “ فواضح أن قدامة لا يقتصر على جعل الوصف محاكاة للمعاني التي يتألف منها الشيء الموصوف فحسب، وإنما جعله محاكاة حسية أيضاً.
عبد القاهر الجرجاني :
فهو يجعل من المحاكاة تشبيه ثم يصبح التشبيه عنده هو المعنى الكامن في مختلف المصطلحات التي يوردها مثل التمثيل, التخيل, التأويل، القياس كما يظهر في شرحة لهذا البيت الذي جعله مثلاً للتمثيل يقول:
كأن النجوم بين دجاه سنن لاح بينهن ابتداع
يقول في شرح ذلك:" إن تشبيه السنن بالنجوم تمثيل والشبه عقلي وكذلك تشبيه خلافها من البدع والضلال بالظلمة ثم أنه عكس فشبه النجوم بالسنن كما فعل فيما مضى من مشاهدات وإنما يقصد بالتشبيه في هذا الضرب ما تقدم من الأحكام المتأولة من طريق المقتضى. ويقصد من أراد أن يفهم هذا البيت فعليه, تؤل السنة طريق الهداية بالنور والبدعة طريق الضلال فهي الظلمة. فصار تشبيه النجوم بين الدجى، بالسنن بين البدع على قياس تشبيههم النجوم في الظلام، ببياض الشيب في سواد الشباب" وهكذا فهم عبد القاهر أن المحاكاة هي التشبيه.
حازم القرطاجي :
هو الذي تبنى الفكر اليونان في كثير من أرائية النقدية حتى أصبح ممثلاً للفكر اليوناني في النقد العربي ولكن رغم ذلك لم يخرج من فهم المحاكاة بأنها التشبيه ويتضح ذلك في معرض حديثة عن التناسب بين المعاني كقوله:“ وما جُعل فيه أحد المتناسبين على هذه الصفه مثلاً للأخر ومحاكيا له, فهو تشبيه". “ وتنقسم المحاكاة على على جهة ما تكون مترددة على السن الشعراء قديما بالعهد ومن جهة ما تكون طارئة مبتدعة لم يتقدم بها عهد قسمين :
القسم الأول : هو التشبيه المتداول بين الناس, والقسم الثاني : هو التشبيه الذي يقال فيه : إنه مخترع وهذا أشد تحريكا للنفوس إذا قدرنا تساوي قوة التخيل في المعنيين “ فهو يجعل المحاكاة تشبيه والمحاكيات تشبيهات فكأن التشبيه هو الفلك الّذي تدور فيه المعاني النقد جميعها.
المحاكاة و الزخرفة :
الزخرفة هي فن الشكل ومعناها العميق, وهي من وحي الخيال لأن الإسلام منع الفنانين المسلمين من تجسيم الأشياء لذلك أستوحى الفنان شكل الزخرف الإسلامية وهو فن خالص للمسلمين فقط وقد أسماه الغربيون “ فن الحرية المطلقة “ لأنه اطلاق لخيالات الفنان, ولعل أفلاطون أول من قدم الفنان على المصلحة “ كان يقول: إن الفن ضرب من اللهو واللعب وأول لعب الإنسان كان فناً. فهو يحاول الربط بين الفن واللهو و قال إن الفنون نوع من اللهو الجميل. وهذه النظرية أرادت أن تحد خيال الفنان من قيود المعنى الذي يعبر عنه وهمه في ذلك تقديم صورة رائعة وجميلة.
العلاقة فلسفة بالجمال بين “كانط” و النقاد:
إذا كان كانط يرى أن فن الجمال متمثلاً في الشكل فإن المسلمين فهموا أن الجمال يتمثل في شكل المحض دون ربطه بالمعنى وقد طرح كانط هذه الفكار بغية تحرير خياله من قيود المعنى، أما المسلمون فقد جعلوا الجمال متمثل في الشكل ولكنهم قيدوه بقيود العراف اللغوية والأدبية والاجتماعية لا بقيد المعنى وهذا الإطار يجب الإتزام به ويجب لا يخرج عنه وهذا ينطبق على فن المحاكاة في الشعر، لذا فالزخرفة لا تشبه الشعر، والزخرفة هي فن الإلهام وهي مجردة من محاكاة الأشكال الطبيعية وهي قمة الإبداع الفني لأنها لا تقيد بقيود. وهكذا أصبحت الزخرف فن موسيقا الشكل بينما التشبيه هو فن تصوير الشكل، ولا شك أن أثر العامل الديني ظاهر هنا، لأن ما أُثر عن تحريم تصوير الأشكال الحية هو الذس أفضى بالفن الإسلامي إلى المثالية والتجريد والرمز وهي الأمور التي حرم منها فن التشبيه، والغريب العامل الديني الّذي منحة الزخرفة صبغة روحانية مجردة، لم يمنح الشعر هذه الصبغة، ومن ثمة فقد أُتيح لفن الزخرفة من التطور ما حرم منه فن الشعر، ولو أُتيح له ذلك لاقترب فن التشبيه شيئاً فشيئاً من فن الموسيقا.
المحاكاة عند حازم القرطباني :
مفهوم المحاكاة :
حازم القرطباني هو أحد النقاد العرب الذين تأثروا بالفكر اليوناني ويعد حازم القرطباني المترجم الحقيقي للفكر اليوناني، لذا نجد كثيراً من الدراسات الحديثة اهتمت بكتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ولأنهم يروا أنه يحتوى على أفكار النقد اليوناني.
تحدث حازم عن مجموعة قضايا كقضية المحاكاة وكان حديثة عن طبيعتها إلا أنه لم يأتِ بجديد لكن حاول تطبيق هذه الأفكار ووصل إلى ملاحظة قيمة هي أن المحاكاة عند اليونان تقوم على الفعل وعند العرب تقوم على الشكل الظاهري وحاول تطبيق التطهير وفهم بأنه سعي المحاكاة لا يثارة المتلقي وهذا مفهوم أرسطو، وتحدث بعد ذلك عن التنقيح والتحسين وبذلك انتعد كثيراً عن مفهوم أرسطو وكان فهمه للمحاكاة كالنقاد أنها تشبيه لأنها لا تحاكي الفعل الانساني وإنما تحاكي الأشياء .
ويقولون إنه تأثر بما وجده عند الفارابي وابن سينا وهو يصرح في كتابه الّذي أورد فيه هذا النص “ هذا هو تلخيص القدر الذي وجده عند المعلم الأول وقد بقي منه شطر صالح لايبعد أن نجتهد نحن فنبدع في علم الشعربحسب هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل" وهو يقصد أرسطو بقوله إجتهاده لقوانين الشعر بحسب الزمان والمكان. إذن مفهومه يقوم على ترجمة أفكار ابن سيناء والفارابي.
طبيعة المحاكاة والوضوح والغموض :
يقول إن الشئ حاكى شيء فهذا يتطلب الوضوح وقد قسم المحاكاة إلى ما يحاكي في نفس بالوصف وما يحاكى غيره بالتشبيه وليس هناك فارق بينهما إلا في كون الوصف مباشر والتشبيه غير مباشر أوالوصف يتناول الشي بدون واسطة و التشبيه يتناوله من خلال مقارنته بشي آخر. ومن خلال ذلك يبدوا أنه تأثر بالفارابي في حديثه عن صورة التمثال والمرآة، وتأثر بابن سيناء في المحاكاة باليد قد يمثل صورة الشي نحتاً وخطاً فتعرف المصور بالصورة وقد تأخذ مرآة يبدوا لك بها إنسان الصورة فتعرفه على هذه الصورة يخيل لك الشاعر صورة الشي بصفاته نفسها وتارة يخيلها لك بصفات شي آخر هي مماثلة لصفات ذلك الشي وذلك نتيجة لما وجده عند الفارابي وابن سيناء وأن ترجمته لم تكن ترجمة كاملة وقد أدرك أن الفهم اليوناني لا يحكي سوى ما كان في القرآن الكريم لأنه يحاكي الفعل الأنساني و يسعى لتطهيره، ومن هنا نفهم أن حازماً يربط المحاكاة بالتشبيه ولا يستطيع أن يتخلص من الاعتقاد السائد في نفسه بل كان أكثر تشدد في ربط المحاكاة بالتشبيه.
ربط المحاكاة بالتشبيه بالوضوح :
ينبغي أن ننظر إلى المحاكاة التشبيهيه من جهات: من جهة الوجود والفرض وهنا تكون المحاكاة بأمر موجود لامفروض, ومن جهة الأدراك ينبغي أن تكون المحاكاة في الأمور المحسة حيث تساعد المكنة الوجوه المختارة بالأمور المحسة، وبها يحسن أن تحاكي الأمور غير المحسة حتى يأتي بذلك ويكون بين المعنيين انتساب، ومحاكاة المحس بغير المحس قبيحة" وفي هذا يتفق مع فهم الفكر اليوناني “ أرسطو” محاكاة الكائن وما يجب أن يكون.
يقول إن الأشياء منها ما يدرك بالحس ومنها ما ليس إدراكه بالحس والذي يدركه الإنسان بالحس فهو الذي تتقبله نفسه لأن التخييل تابع للحس وكل ما أدركته بغير الحس فإنما يرام تخييله بما يكون دليلاً على حالة من هيئات المطيفة به واللازمة له حيث تكون تلك الأحوال مما يحس ويشاهد فيكون تخييل الشي من الأثر والأحوال اللازمة له حالة وجوده. فالقصة, و الزخرفة تخييل و فن الرواية العربية تحاكي الفعل الإنساني و بالتالي تمثل الملحمةالحديث للعرب.
الإغراب في الشعر ومطالبة الشاعر بالوضوع :
قرن حازم المحاكاة بالإغراب، وجعل ذلك مما يلائم النفس، وقد أورد ذلك في تعريفه للشعر، وقد ظهر في حديثه أنه يؤثر كا ما هو مألوف أو يفضل قرب التشبيه، وعلى ضوء ذلك قسم التشبيه إلى متداول ومخترع، ويقول المخترع أشد تحريكاً للنفس إذا قدرنا تساوي قوة النخييل في المعنيين لأنها آنست بالمعتاد, فربما قل تأثيرها له وغير المعتاد يفجؤها بما لم يكن به استئناس لأن النفس تميل إلى الشي الغريب أي بالنفور عنه أوالاستعصاء عليه وذلك لجماله أوقبحه. إذن الإغرب في مفهومه مربوط بالتشبيه وهو لا يقوم على الغموض, وهنا يقترب حاوزم من عبد القاهر الجرجاني في مفهمه “ للتعجيب والتغريب“
المحاكاة بين الصدق و الكذب :
ولعل الذي جعل حازم في طليعة النقاد الذين ترجموا الفكر اليوناني فكرته عن مفهوم الصدق والكذب فهو لم يجعل الشعر صدقاً ولا كذباً وإنما المهم فيه عنصر التخييل أي المحاكاة “
كيف فهم هذا الفهم وهل حاول أن يطبقه؟ يقول إن قوام الشعر ليس الصدق أوالكذب وإنما التخييل, والشاعر قد يخيل ما هو صادق وقد يخيل ما هو كاذب ولا يكون شاعراً باعتبار ما يخيله وإنما يكون شاعراً باعتبار قدرته على التخييل، والتخييل ينظر إلى الشي نظرة الفن لا نظرة الخلق, وإذا ما أجاد تصوير الشي ولم يبال أن يكون عذا الشي صادقا أم كاذبا، فالتخييل هو المطلوب في الشعر وهو والمعتبر في صناعته، لا كون القاويل صادقة أو كاذبة.
ويقول أفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيئته وقويت شهرته أوصدقة أوخفي كذبه وقامت غرابته وإن كان قد يُعدُّ حذقاً للشاعر اقتداره على ترويج الكذب وتمويهه على النفس واعجالها إلى التأثر له قبل بأعمالها الروية فيما هو عليه. فهذا يرجع إلى الشاعر وشدة تخيلة في إيقاع الدلسة للنفس في الكلام.
إذن حازم سعى لدرء تهمة الكذب عن الشعر؛ أي “ أعذب الشعر أكذبه “ وهو يصرح بأن دفاعه عن الأقاويل الصادق في الشعر إنما يرجع إلى رغبته في رد القول السابق، فيظن أن التشبيه والمحاكاة من جملة كذب الشعر. وليس كذلك لأن الشي إذا اشبه الشي فتشبيهه به صادق لأن المشبه مخبر أن شيئاً أشبه شيئا وهو بلا شك الصدق. فتبين أن الوصف والمحاكاة لا يقع الكذب فيهما إلا بالافراط وترك الاقتصاد.
لقد خلص حازم إلى أن من يقول أن مقدمات الشعر لا تكون إلا كاذبة فهو كاذب ومثله من قصر الشعر على الكذب مع أن الصدق أنجع فيه إذا وافق الغرض، ويقول عن الصدق:" ما وقع من الوصاف والمحاكاة مقتصداً فيه، غير متجاوز، فهو قول صادق".
وحدة الموضوع ونظام القصيد عند حازم :
يبدوا أن النقاد العرب قد شغلوا بوحدة الموضوع التي تحدث عنها أرسطو وحاول الفلاسفه من قبلهم ترجمتها و روابطها بالوحدة ونظام القصيدة.
لم تجد لحازم رأياً يخالفهم من حيث الفكرة فهو سار على نهج من سبقوه في وحدة الموضوع نظام القصيدة– والذي يبدو أنه حاول الاعتماد على الفكر اليوناني – ولكن ترجمته كانت ترجمة فكرية لم تتعمق مفهوم الفكر اليوناني.
فكرته في وحدة الموضوع :
يرى حازم أن الشيء يجب أن يحاكى بحسب ترتيب أجزائه، فتكون محاكاته بالقول كمحاكاته بالرسم من حيث ترتيب أجزائه على ما هي عليه في الطبيعة وهذا يعني أن القصيدة تشبه الحيوان فإذا أرادنا رسمه فعلينا أن نرسمه كاملاً منظوماً. وبهذا فقد كررما قاله لكن بطريقة أخرى, ثم تحدث عن تعدد الموضوعات؛ من وقوف على الأطلال ثم الوصف وهو يرى أن هذا التعدد شيء جميل لأنه يرى أن القصيدة إذا أُفرقت في قالب واحد كان ذلك أدعى إلى السأم والملل لأن التعدد يجدد الإحساس بالقصيدة، وهذا تقليد لأرسطو. ولعل الغريب في فكره أنه لم يتحدث عن الموضوعات فقط وإنما اتخذ من هذا نهجاً يدعو الشعراء إليه ويحدد لهم ماذا يقولون في المديح والهجاء؛ أي في الغرض الذي يريدون أن يكتبوا فيه، ثم تحدث عن ظاهرة الانتقال من غرض إلى غرض وسمى ذلك طرق الاحتيال في جمع طرفي القصيدة؛ أي القول على نحو محكم لا يختل به نظام القصيدة. ثم وضح أن طرق احتيال تنقسم إلى أقسام منها 1- التدرج في الانتقال بما يمت إلى الغرض الأول بسبب (حسن التخلص) 2-الثاني هو الانتقال المفاجئ من غير مقدمة سواء بموافقته أوبمناقضته أما على سبيل التشبيه أوالمحاكاة وأما بالاضراب عن مقصد والاعتداد بالآخر. ثم بدأ بوضع نظام للقصيدة مطلعها ونهايتها. ويقول يجب أن تكون البداية جزلة حسنة المسموع والمضمون دالة على غرض الكلام و جيزة تامة.
ثم في حديثة عن الموضوع تحدث عن الأغراض كالمديح والهجاء والتناسب بين المقدمة والغرض الذي من أجله أنشأ الشاعر القصيدة ويبدو أن كلامه يناقض ما قاله عن مفهوم المحاكاة “ إن المحاكاة هي التخييل ولم يترك مساحة للتخييل بل قيده بمجموعة من التفاصيل والقوانين. فقد اختار مثلاً في المديح قواعد لمدح الوزير أوالخليفة، وهنا نجده خالف فكرته لأنه قال لا يقوم الشعرعلى الصدق أوالكذب بل يقوم على التخييل ومن هنا نفهم أنه أحال الشعر من العاطفة إلى العقل.
الطبع والتطبع :
إذا كان حازم يؤكد قوة التخييل في فهمه للمحاكاة كان عليه أن يقف بجانب الشاعر المطبوع لأن الشاعر يعبر عن قوة تخييله للموضوعات ويكون صادقاً فيما يعبر عنه أما التصنع فهو صنع الشاعر إحاسيس يكتب فيها شعراً يجاري به الشاعر المطبوع، وهو شعر يفتقد الصدق والإحساس وقوة التخييل ويلحظ في حديثه عن الشعر المطبوع والمصطنع أنه يساوي بينهما وخاصة إذا أجاد الذي يصطنع الطبع فينزله منزلة الشاعر المطبوع وهنا يخالف ما أورده في أمثلته السابقة.
إن الذي دفع حازم أن يدخل في هذا التناقض أنه عندما أراد أن يحدث عن وحدة الموضوع إما يكون هذا التناقض ناشي من عدم إستيعابه للفكر اليوناني تاماً أو أنه استوعبه و لم يتقبله أويعود إلى تأثره بالنقاد الذين سبقوه، فهو يردد آراءهم بعيداً عن الفكر اليوناني، لكن ماقدمه حازم يعد ثمرة استطاع أن يطبق المناهج النظرية السابقة.
و الله ولي التوفيق
جامعة الإمام المهدي
كلية الآداب قسم اللغة العربية
الفرقة الثالثة “أ” مذكرة في مادة أصول النقد
إعداد الدكتور :
أبو هدايا ضو البيت
عن كتاب أصول النقد د.عصام قصبجي
المحاكاة عند الفلاسفة
أ-أفلاطون :
مفهوم المحاكاة عند أفلاطون :
هناك علاقة جوهرية بين النقد والمحاكاة منذ أن طلع أفلاطون بنظريته التي فسر بها حقائق الوجود إلى أن قال : “ شلي “ “ إن الشعر فن قائم على التقليد “ بيد أن المعضلة حقاً هي العلاقة بين النقد والفلسفة, وقد حمل أفلاطون على الشعر حملة ميتا فيزيقية نابعة من نظريته في المثل التي قيل إنه أراد بها :” أن تعبر عن طبيعة النظرة العقلية للعالم من حيث إنها تتخلى عن الطابع العرضي للظواهر المتغيرة “ وربما كانت صورة الكهف الشهيرة التي أوردها أفلاطون في جمهورية هي خير تعبير عن نظرية المثل من حيث صلتها بنظرية المحاكاة. فهو يرى أن ما نراه وندركه من الأشياء يشبه ما يدركه أناس ينظرون إلى ظلال نار على جدران الكهف و قد أداروا ظهورهم إلى فتحته التي تتأجج أمامها النار فهؤلاء إنما يدركون الظلال المرتسمة على جدران الكهف فيخالونها الحقيقة, فإذا ما تجردوا من قيود الظاهر و غادروا كهفهم أبصروا حقائق الأشياء في النور بعيداً عن الظلال. فكأنما عالم المثل هو الماهية الحقيقية التي تسبق الوجود وما الوجود إلا محاكاة حسية مثل الظلال من النار الحقيقية. وهكذا قد خُلق التمييز الفلسفي الأساسي بين المظهر والحقيقة. وأكدت أولوية عالم الأفكار وفوق عالم المحسوسات.
الفن عند أفلاطون :
فصل أفلاطون بين الفكر والفن وهو يرى أن الفنان إنما يحاكي ظاهرة العالم الحسي. وهو بذلك يسلبه عنصر التفكير، فيعد إبداعه الهاماً علوياً لا ينطوي على جهد ذهني خاص به. ويقول فايدروس “ غير أن هنالك نوعاً ثالثاً من الجذب والإلهام “ مصدره ربات الشعر إن صادف نفساً طاهرة رقيقة أيقظها فاستسلمت لنوبات تلهمها بقصائد وشعر تحي به العديد من بطولات الأقدمين “ و هنا يظهر لنا أن أفلاطون فرق بين الشاعر المحاكي والشاعر الملهم, فجعل للملهم مقاماً أسمى من المحكي وأغلب الظن أنه كان يزدري شعر المحاكاة خاصة من حيث إنه تصوير سلبي للظلال.
ويقول محمد غنيمي هلال معقباً على نظرية أفلاطون : الشاعر أوالفنان بعامة يعكس لنا في فنه خيالات الأشياء أومظاهرها لا جوهرها وهو في ذلك في مرتبة دون الفيلسوف بل دون مرتبة الصانع ...الخ، و بذلك وضع الشاعرفي رتبة دون الفيلسوف و دون مرتبة الصانع و ذلك لأن النجار مثلاً يحاول أن يقرب في صنعته لسرير خاص أو منضدة خاصة من درجة الكمال بتأمله في صورة السرير المثالية أو المنضدة المثالية وهي الصورة العقلية الثابته الخالدة التي هي من خلق الله بينما يحاول الشاعر وصف المنضدة فهو يحاكي منضدة هي بدورها صورة ناقصة للصورة المثالية. وكذلك شعراء المأسى “ الكوميديا و التداجيديا “ يحاكون الأشياء و الحوادث على هذه الصورة البعيدة من جوهر الحقيقة ومن صورها الخالده المثالية ولا يغوصون إلى الحقيقة وجوهراها .
فكرته في الأدب :
إذن فكرته عن الأدب هو مجرد مرآة تعكس الواقع الخيالي وهو تصوير ساذج للواقع وكذلك للبيئته من حوله ثم تسربت هذه الفكرة إلى النقد قديماً وحديثاً وإنما الأدب في عصرنا هذا يزين الواقع. ويقول “ إن المقلد لا يعرف شيئاً مهما عما يقلده، فالتقليد لهو وتسلية لا عمل جدي وإن الشاعر الملهم ما هو إلا متلقي يخفي ببلاغته الحقائق عن الناس” فهو لا يخدم قضيته لأنه يرى أن الفن ما لم تكن له غاية معرفية وقيمة حقيقه فهو ليس بفن عنده لأن الفن محاكاة لجوهر الأشياء.
معيار الفن عند أفلاطون:
هو الحقيقة وأن السبب الحقيقي لحملته على الشعر هو مقته البالغ للمحسوسات وتجريده لها من كل عنصر ذهني وانصرافه عن الأخلاق فالشعر عنده عدو الحقيق .
تلخيص فكرة أفلاطون :
الشعر يجب أن ينشد الحقيقة والأخلاق معاً “ وخيانة الحقيقة خطيئة” ولا نسمح لشاعر أن يقول إن الله سبب العقاب الذي آل إلى شقاء عبده “ وبهذا الفهم يسعى أفلاطون إلى طهارة الحياة ويهاجم كل ما يمكن أن يسئ إلى هذه الطهارة, والشعر كما عهدة كان يسئ إليها بتصوير الآله على نحو ضار لذا يقول :" لا تنسى أن الشعر لا يباح في الدولة إلا في تسبيح الله ومدح الصلاح " أما الإدعاء أن الإ له الصالح علة شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوة، ومن هنا تبدو حكمة النظرة الفلسفية للأدب عنده، فهي تنشد القيم والأخلاق وهذا واضح من خلال أراءة .
الوحدة العضوية :
تحدث أفلاطون عن ضرورة تماسك الهمل الأدبي فتناول الوحدة العضوية الحية في الفن وهذا يدل على أن نظرية المثل تحض على التخلي عن الطابع العرضي قائلاً : “ يجب على كل حديث أن يكون مكوناً على شكل كائن حي له جسم خاص به بحيث لا تنقصه رأس ولا أقدام بل لا بد له من وسط مع وجود طرفين يكونان قد ركبا بشكل يتفق بعضه بعضاً ومع الكل" صفوة القول إن المحاكاة عند أفلاطون هي تصوير لظاهر الطبيعة على نحو يشبه فيه الشاعر الرسام الذي يحاكي الشي ولا يحاكي “المعنى” أوالمثال فيتأخر بذلك عن الصانع الذي يحاكي مثلاً عقلياً إلهياً ثانياً .
أرسطو
مفهوم المحاكاة عند أرسطو :
اختلف مفهوم المحاكاة عند أرسطو عن مفهوم المحاكاة عند أفلاطون اختلافاً جوهرياً نابع من اختلاف النظرة الفلسفية, فأفلاطون كان ذا نزعة صوفية غائية وفكرة اعتقادي مع عدم تحققه لموازنة الخير والشر، فتبدو أفكاره مثالية لا يمكن تحققها في الواقع, وفي جانب آخر بنى أرسطو أفكاره على التجربة العملية التي تصلح للتطبيق في أرض الواقع. لذلك لم يذعن لنظرية أستاذة في المثل .
الفن عند أرسطو :
يرى أرسطو أن الفن حقيقة هو محاكاة للطبيعة ولكنه لم يربط محاكاة الفن للطبيعة بمفاهيم المثل كما فعل أفلاطون لأن الفن عنده يحاكي الطبيعة ولكن الطبيعة ليست محاكاة لعالم عقلي. وهو يحاكيها بعد فهمها على نحو متكامل منظمة وإذا كانت المحاكاة عند أفلاطون نظرية فلسفية فإنها عند أرسطو نظرية فنية . فالشاعر ليس حامل مرآة ينظر إلى مظاهر الأشياء فيها وإنما يحاكي ما يمكن أن يكون لا ما هو كائن.
ويقول إن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه, و ما هو ممكن على مقتضى الرجحان أوالضرورة فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أومنثور بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه ومن هنا كان الشعر أميل إلى قول الكليات على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. ومن هنا كان تفضيل أرسطو للشعراء ووضعهم في طبقة عليا وإن أرسطو استوحى فكرة ممن سبقوه قديماً كما يعلق على ذلك ديدرو فيما بعد قائلاً:" أن الفنان لا يحاكي الطبيعة ولكنه يجملها، فالفن يجمل الطبيعة، ويبدو كأنه يضرب المثل لكي تحاكيه الطبيعة ولا يحاكيها، والفنان لا يقتصر على رسم الواقعالمباشر لظاهر الشياء ولكنه يعبر عمّا هو جوهري فيها هكذا فجوهرالفن عند أرسطوهو محاكاة الطبيعة. وعلى ضوء ذلك فإن أرسطو يجعل الشعر في مقام علياً إلى جوار الفلسفة ولم يجعله في الدرك الأسفل بعد الصانع كما فعل أفلاطون.
المحاكاة في الفنون الأخرى :
المحاكاة في الفنون الأخرى عند أرسطو هي محاكاة للجوهر أي محاكاة للفعل الإنساني ويقول أرسطو في الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والرقص" الشعر إذا قيس بالفنون لا يقاس بالتصوير الذي تظهر فيه شبهه المحاكاة المطابقة للأصل إنما يقاس بالرقص والموسيقى ونحن نعرف كيف يغاير الراقص والموسيقار في محاكاته للطبيعة, وعلى شاكلتها يغاير الشاعر في المحاكاة" ومعنى ذلك أن الشعر ليس محاكاة مختلفة عن محاكاة أخرى أومحاكاة بواسطة كما هو واضح في نظرية المثل بل هو محاكاة للطبيعة تقف عندها ولا تتعداها إلى شي وراءها.
إذن هي ليست محاكاة آلية ساذجة بل محاكاة تظهر فيها موهبة الشاعر وأفكاره وخيالاته, فهي محاكاة تماثل الرقص والموسيقى .
أنواع المحاكاة :
يقول أرسطو : شعر الملاحم وشعر التداجيديا والكوميديا والدثورامبي وأكثر ما يكون في الصفر في الناي واللعب بالقيثار, كل تلك بوجه عام هي أنواع المحاكاة ويفترق بعضها عن بعض على ثلاثة: أما باختلاف ما يحكي به, أوباختلاف ما يحاكي, أوباختلاف طريقة المحاكاة, وجميع هذه الفنون تحدث المحاكاة بالوزن والقول والإيقاع أما بواحد منها على إنفراد أوبها مجتمعه, ويقول الوزن ليس جوهر الشعر و إنما جوهر المحاكاة .
وقد فضل أرسطو الشعر الملحمي تبعاً لاتجاه الحضارة الإغريقية ولأنه محاكاة لجوهر الفعل الإنساني وهو يرى أن الفعل الإنساني هو روح الشعر.
نظرية التطهير عند أرسطو:
ولعل النزعة الفلسفية في النفور من الجزيئات والتعلق بالكليات كانت علة انصراف الإغريق إلى الشعر الملحمي عن الغنائي, فالملحمة أدب موضعي يحاكي الفعل الإنساني على نحو منظم خاضع لقانون الإحتمال والضرورة بغية تطهير النفس من إنفعالاتها الضارة. أما الشعر الغنائي فتغلب عليه محاكاة المشاعر الفردية على نحو يفضي إلى الجزئية بل أنه قد يفضي إلى ضرب من الجمود بابتعاده عن محاكاة الفعل الممكن بما يعنيه من تطور وشمول.
الوحدة العضوية عند أرسطوا :
هي تلك الوحدة القائمة بمقتضى الضرورة والرجحان المعبرة عن فعل واحد تنتظم أجزاؤه بحيث لا يمكن نزع أحدهما, و يظهر ذلك في قوله الثاني: المحاكاة الروائية ينبغي أن تدور حول فعل واحد تام مكتمل له أول ووسط وآخر حتى تكون كالحيوان التام كما أنه في سائر الفنون المحاكية تكون المحاكاة الواحدة لموضوع واحد كذلك يجب أن تحاكي القصة عملا واحد وأن يكون هذا العمل الواحد تاماً وأن تنتظم أجزاء الأفعال فيه بحيث أنه لوغير جزء أونزع لا نفرط الكل واضطرب .
الماسأة و الملهاة :
فهو يفسر الملهاة والمأساة من خلال بحثه عنها في الطبيعة الإنسانية فيقول: إن المحكاة أمر فطري موجود في النّاس منذ الصغر والإنسان يفترق عن سائر الأحياء بأنه أكثرها محاكاة وأنه يتعلم أول ما يتعلم بطريق المحاكاة و دليل على ذلك ما يقع فعلاً : فإننا نلتذ بالصور الدقيقة البالغة للأشياء التي نتألم لرويتها كأشكال الحيوانات الدنيئة والجثث الميته ....الخ.
معيار الشعر عند أرسطو :
يقول أرسطو إن الشعر ينبغي أن ينشد الحقيقة بحسب مقدرته الفنية وبحسب تصوره للممكن المحتمل والمستحيل مع البقاء ضمن المألوف لأن ذلك يجعل من الشعر تعبيراً موضعياً يبدو بعيداً عن ذات الشاعر وهو الذي أفضى إلى القول بالوحدة الموضعية للعمل الشعري .
مفهوم المحاكاة عند الفلاسفة المسلمين :
لما كان لكل حضارة نظرتها الخاصة إلى الحياة بحيث تولد وهي تحمل معها صورة وجودها, فقد كان من الصعب على الحضارة الإسلامية الناشئة أن تفهم صورة الحضارات الأخرى على نحو حقيقي صادق لما تنطوي عليه من عناصر غريبة، فإنه غالباً ما يكون هذا الفهم ناقصاً كاذباً أومحرفاً خاضعاً لطابع حضارته الخاصة. فقد حاول “ متى بن يونس " منذ البداية تطبيق ظواهر الشعر اليوناني على الشعر العربي فترجم الماسأة بالمديح, والملهاة بالهجاء, و ذلك لأنه لم يكن يتصور نمطاً من الشعر يختلف من النمط العربي.
ولا غرابة أن العرب ترجموا أفكار أرسطو ولكنهم فهموا أفكار أفلاطون, ذلك أن مفهوم أفلاطون عن المحاكاة كان أقرب إلى طبيعة الشعر العربي, ولكن المعضلة حقاً هي أيضاً علة حملته على الشعر, فكأنّ النقاد العرب أقروا أفلاطون على أن الشعر تصوير حسي لمظاهر الأشياء ولكنهم لم يجعلوا ذلك سبباً في إزدراء الشعر و إنما جعلوه تبعاً لطابع شعرهم ومظهر الأبداع الفني.
الفارابي : مفهوم المحاكاة :
الفارابي أحد الفلاسفة المسلمين الذين حاولوا تطوير المحاكاة وذلك من خلال مقالته التي افترض أنها تلخيص لكناب أرسطو “ فن الشعر" و استخلاصه منهجاً ليطبق على الأدب وهو بذلك تأثر بالفكر الإفلاطوني قائلاً “ إن الأقاويل الشعرية كاذبة لامحالة، ما وقع منها في ذهن السامعين الشي المعبر عنه بدل القول وما يوقع فيه المحاكي للشي" وبذلك تنقسم محاكاة الشيء إلى ضربين؛س إلى ما هو أتم محاكاة، وإلى ما هو أنقص محاكاة .
الإيهام في الشعر :
تحدث الفارابي عن الإيهام الشعري أي غموض الكلام وحاول توضيح مفهوم الإيهام أي وهم المتلقي بغير الحقيقة من خلال إيهامه، فإن الإيهام يقع بما يقع فيه الإنسان من الخطأ وذلك بأن يرى الإنسان القمر من خلال الغيوم السارية فيخاله سارياً ولكن القمر لا يسير وإنما التي تسير هي الغيوم. أما محاكاة الشئ للشئ فهي كمن يأخذ مرآة فيعكس فيها الأشياء. وهذا فكر أفلاطوني للفارابي نابع من معطيات الحضارة الإسلامية لأن أفلاطون ينشد الحقيقة والحضارة الإسلامية تدعوا إلى القيم الفاضلة التي تبني عليها الحقيقة. و تعتبر ملاحظة الدكتور “إحسان عباس “ وتمييزه الشعر عن القول البراهاني ملاحظة قيمة
مقارنه الشعر بالفنون :
يرى الفارابي أن المحاكاة هي جوهر الشعر وحاول أن يلتمس من الفنون الأخرى فن يشبه الشعر فعقد مقارنة بين الشعر والنحت والرسم أي المحاكاة الظاهرية لأنه يرى أن هذه المحاكاة تكون لظاهر الأشياء، والشعر أقوال تحاكي ظاهر الأشياء، إلا أنه أغفل مقارنة الشعر بفن الموسيقى على الرغم من أنه كان بصيراً بالموسيقا عملاً ونظراً فإنه لم يفهم العلاقة بينهما. يقول إن المحاكاة قد تكون بالفعل كما في النحت وقد تكون بقول كما في الشعر ثم يذهب مره أخرى ويعقد مقارنة بين الشعر والرسم يقول إن بين أهل هذه الصناعة وبين أهل التزويق مناسبة لكنّهما مختلفان في مادة الصناعة، ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها أونقول: " إن بين الفاعلين والصورتين والغرضين تشابهاً، ذلك أن موضع هذه الصناعة الأقاويل (ويقصد بها صناعة الشعر) وموضوع تلك الاصباغ ويقصد بها ( صناعة الرسم ) وإن بين كليهما فرقاً إلا أن فعليهما جميعاً التشبيه وغرضيهما إيقاع المحاكايات في أوهام الناس وحواسهم" وكل منهم يحاكي الطبيعة ويسعى لتقريب الطبيعة في أوهام الناس، وذلك أن المحاكاة تقع في ظواهر الأشياء وهنا يتضح تأثر الفارابي بالفكر الأفلاطوني أيضاً وهو عدم الغوص في جوهر الأشياء وذلك من فهم الفارابي لكتاب فن الشعر لأرسطو.
ملاحظات الفارابي :
قد أشار الفارابي إلى ملاحظة قيم كانت ستغير وجه النقد لو فهمها الناقد وهي ووردت في حديث ابن رشد وهي فكرة الفارابي التي تقول “ إن كانت أكثر أشعار العرب -كما يقول أبو نصر – في النهم والكدية أي في أخذ المال عن طريق الاستعطاف والاستجداء أي الإقناع وفي شهوة الغرائز. فهاتين مرفوضتين في الحضارة الإسلامية لذلك يرى أن الشعر ضار بالمجتمع ويرى كذلك إبعاد الصغار عن شعر الغزل لأنه يفسد الولدان وبذلك حصر الشعر العربي على طرفين, طرف الحواس من الناحية الفنية وطرف الشهوات من الناحية الخلقية وهنا يظهر تأثر الفارابي بالفكر الأفلاطوني أيضاً.
إذن ما دفع الفارابي أن يحمل على الشعر العربي القديم هو الأخلاق، فقال إنه شعر لا ينشد الفضيلة بل يحض على إثارة الغرائز المادية .
اطلاعه على أشعارالأمم الأخرى:
اطلع الفارابي على أشعار المم الأخرى ووجد فيها ما يدعوا إلى صلاح المجتمع بخلاف الشعر العربي، ثم حاول التحدث عن الكوميديا والتراجيديا و جاء تفضيله على النظرة الأفلاطونية. يقول أما “ الطراغوزيا “ وهي الماسأة عند اليونان فهو نوع من الشعر له وزن معلوم يلتذ به كل من سمعه من الناس, لأو تلاة ويذكر فيه الخير والأمور المحمودة والمحروص عليها ويمدح بها مدبرو المدن كالفلاسفة في المدن الفاضلة. أما ديثرامبي “ الشعر الغنائي “ فهو نوع له وزن ضعف وزن “ الطراغوزيا “ ويذكر فيه الخير والأمور المحمودة والفضائل الإنسانية ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولكن تذكر فيه الخيرات الكلية وهو ما قال عنه أفلاطون الشعر “ التسبيحي “ وهذا يرجع إلى نزعته الصوفية الخلقية الواضحة.
المحاكاة و الوزن :
هذه ملاحظه جوهرية قيمة لو عمل بها النقاد الذين جاءوا من بعد الفارابي لأخرجوا النقد والشعر العربي القديم من دائرة الحسية إلى دائرة الحس الإنساني قائلاً : إن الشعر يعتمد على عنصرين جوهريين هما المحاكاة والوزن, أما الوزن فهو ضروري لكي يميز الشعر عن القول الشعري بيد أنه مع ذلك ليس من ضرورة المحاكاة التي تبقى أهم العنصرين، والمعضلة هي أن الناس أولعو بالوزن حتى لم يعد الشعراء يبالون أن يكون الشعر محاكيا إذا كان موزوناً وهكذا أصبحت مشكلة الشعر تنحصر في تقليب الوزن عن المحاكاة. الحق أن للشعر عنصرين مهمين هما المحاكاة والوزن، فالذي يفرق بين الشعر والأقوال الشعرية هو الشاعريه؛ أي المحاكاة والوزن لذا نجد أن المنظومات تخلوا من المحاكاة، وهذه لم تظهر إلا في العصر الحديث لأن القصيدة تعتمد على الكلام الداخلي للمحاكاة وتخلوا من الوزن وهي ظهرت عند الفارابي وحده وهي قريبة من أفكار أرسطو لأنها لا تحاكي أوزان الأنسان “ الأقوال المنظومة “
مفهوم الصدق و الكذب : “ التطهير “ :
تحدث الفارابي عن مفهمومي الصدق والكذب وتناول فكرة التطهير عند أرسطو قائلاً: “ والمحاكاة في الشعر ليست ولهواً أولعباً وإنّما هي تخييل يفضي إلى فعل معين فإن الإنسان كثيراً ما تتبع أفعاله تخيلاته وكثيراً ما يكون ظنه أوعلمه مضاد لتخيله فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه به أوعلمه فلذلك صار الغرض المقصود من الأقاويل المخيلة أن تنهض بالسماح نحو الشي الذي خيل له فيه أمر سواء صدق ما تخيله إليه من ذلك أو لا, كان الأمر في الحقيقة على ما قيل أم لم يخيل. إن الأقوال الشعرية قد تخيل أقوال تطابق الواقع أو لا تطابقه والمهم فيها تحريك الإنفعال الإنساني وتحركه بما تحدثه فيه من انفعال، وهنا اتفق الفارابي مع أرسطو في محاكاة الفعل الإنساني التي تؤثر في المتلقي وتثير فيه الانفعالات المطهرة سواء كانت مأساة أم ملهاة ويظهر ذلك في قصيدة “ ليلة ولاجئه “ حيث بث الشاعر فيها كثيراً من الانفعالات والعواطف التي استطاع من خلالها من كسب للتعاطف مع هذه القضية.
الإلهام في الشعر :
تحدث الفارابي عن الصنعة والإلهام كان الفارابي بصيراً بصنعة الشعر “ ومفهوم الصنعة عند الفارابي يرى أن الشاعر يجب أن يكون بصيراً بدقائقها عارفاً بخواصها و يرى أن الإلهام وحدة لا يكفي ولا بد أن يعرف الشاعر كيف يصب هذا الإلهام في قالب فني، وصناعة الشعر ليست خالية من الإحساس وإنما يجب أن يكون الشاعر ملما بعناصر الوزن ويكون شعره نابعاً من الإحساس، فيقول: " أحمد أنواع الشعر يفسر مفهوم الصنعة لأنه يرى أن الشعر يجب أن ينبع من داخل صاحبه “ فبهذا تحدث عن الصدق الفني.
ولا يعتمد على نماذج سبقته فيكررها، ويلاحظ أن الفارابي يتكل على أفلاطون وأرسطو كما قد حاول مزاوجتهما إلا أن أراءه لم تتح لها الفرصة للإفادة منها وخاصة قوله “ جانب الوزن والمحاكاة والكذب والصنعة والصدق الفني إلا ما كان عند المتنبي من خلال لقاء به عند سيف الدولة .
ابن رشد
مفهوم المحاكاة :
أراد ابن رشد أن يفهم المحاكاة عن أرسطو ولكنه منذ البدء حاول أن يطبق أفكار أرسطو على الشعر العربي دون أن يفلسف ما فلسفه الفارابي فهجم على الشعر بقوله “ إن كل قول شعري فهو إما هجاء, وإما مديح “ لأنه حاول أن يفهم كلام أرسطو عن الملهاة والماسأة ولم يقتصر على وضع الشعر فقط في دائرة المديح و الهجاء. وإنما جعل الفنون جميعها في هذه الدائرة، وهنا تظهر مغالطته وارتكابه للخطأ، لأنه ترجم المحاكاة مديح وهجاء – ثم قال إن الشعر هو التشبيه ولم يدع لنا فرصة للتساؤل عمّا يعنيه بالتخيل أوالمحاكاة وحاول تطبيق التخيل أي التشبيه بمفهومه العام وذلك من خلال قوله: “ الأقاويل الشعرية هي الأقاويل المخيلة وأصناف التخيل والتشبيه ثلاثة : اثنان بسيطان, وثالث مركب منها أما الاثنان البسيطان فأحدهما تشبيه شي وتمثيله به وذلك يكون في لسان لسان بلفظ خاصه عندهم مثل كأنّ, وأخال, و ما أشبه ذلك في لسان العرب وهي التي تسمى عندهم حروف التشبيه ....الخ “
ينبغي أن تعلم أن هذا القسم تدخل فيه الأنواع التي يسميها أهل زماننا استعارة وكناية، وهو فهم أن المحاكاة هي تشبيه كما فهم الفارابي حيث أصبحت المحاكاة هي فنون البلاغة التي تحاكي ظاهرة الأشياء وهنا اختلف عن أفلاطون. ثم تحدث عن المحاكاة من خلال حديثه عن التشبيه فتناول الماسأة والملهاة وعرف الملهاة أي صناعة المديح على أنها تقوم من مشبه ومشبه به, فالتشبيه يتم بالقول المخيل والوزن واللحن والمشبه به أوالمحاكى هي العادات والاعتقادات والنظر“ الاستدلال “ و لكنه عندما جاء إلى الشعر العربي و جد أنه لا يتضمن إلا المديح فكيف يطبق ذلك على الشعر العربي يقول ابن رشد فيما يفترض أنه تلخيص لكلام أرسطو :" يجب أن تكون أجزاء صناعة المديح ستة؛ الأقاويل الخرافية, العادات والوزن, الاعتقادات, النظر, اللحن, والدليل على ذلك أن كل قول شعري ينقسم إلى مشبه ومشبه به والذي يشبه به ثلاثة : المحاكاة, والوزن, واللحن والذي يشبه في المديح ثلاثة أيضاً العادات والاعتقادات والنظر “ الاستدلال “ بصواب الاعتقاد فتكون أجزاء صناعة المديح بالضرورة ستة وقال ابن رشد إنها لا تطبق على الشعر العربي ولا توجد فيه إنما نجدها في كتب الوعظ والقصص الشعرية وهي إشارة خطيرة من ابن رشد وذلك لاطلاعة على الشعر اليوناني القديم.
فقد وجد الفضيلة في الملاحم وضرب نموذجاً بقصة سيدنا يوسف وزوجه العزيز زليخة فهي تحض على الفعل الإنساني الخير وتكشف الجانب السئ في الإنسان إلا أن هذا حدث في العصر الحديث في دراسة القصة لذا لم يستفيد النقد الأدبي القديم من هذه الآراء.
فكرة التطهير :
أدرك ابن رشد فكرة التطهير من خلال ما يمكن أن تثيرة المحاكاة “ من الرحمة والخوف “ وقد ذهب إلى أن التطهير يتم بمحاكاة النفوس لما في الفاضلين من نقاء قال في تعريف للماسأة “ المديح “ أنها محاكاه للعمل الأرادي الفاضل الكامل وأن غايتها التطهير كما يقول محمد غنيمي هلال لأن تعتدل هذه الأنفعالات في الإنسان دون أن تمحى وفي هذا تكمن القيم الأخلاقية للانفعالات التي تثيرها فينا المسرحيات والغاية خلقية ودينية وهي الحث على الفضائل الخلقية من خلال مشاعر الحزن التي تعتري الإنسان.
الصدق والكذب عند ابن رشد و علاقته بالأقاويل الشعرية :
يقول ابن رشد: إن الغلو الكاذب من ضروب المحاكاة ولكنه يحمل كذب ليس فيه صدق “ ثم يضيف الغلو الكاذب يوجد في أشعار العرب كثيراً ولا يوجد مثله في الكتاب العزيز إذا كان ينزل من هذا الجنس من القول “ يعني الشعر “ منزله الكلام السفسطائي من البرهان ولكن قد يوجد بالمطبوع من الشعراء منه شي محمود لكن المعضلة أنه جعل الخيال محاكاة لأنه حاول فهم أرسطو من خلال أفلاطون.
الوحدة الموضعية :
تحدث ابن رشد عن الوحدة الموضعية وحاول أن يفهم فكرة العقدة والحل وقال إن العقدة في الشعر العربي تسمى بالرباط “ البنية “ كالنسيب والوصف أوالمديح ثم حاول أن يفهم الحل وقال إن الحل نوع من الرباط يستخدمه العرب بكثرة في أشعارهم وهو ربط النسيب بالمديح كقول أبي الطيب .
مرت بنا بين تربتها فقلت لـــها من أين جانس هذا الشاد العربـــا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ليث الشرى, وهو من عجل إذا انتسبا
وأما الحل فهو موجود في أشعار العرب مثل قول زهير “ دع ذا وعد القول في هرم “ والحل هو الإنتباه إلى الإنتقال المفاجئ
أسباب ميل الفلاسفة و النفاد و المسلمين إلى مفهوم أفلاطون
كان افلاطون أقرب إلى أفكار العرب لأنه أقرب إلى أشعارهم لأنهم ربطو القرابة بطبيعة النظرة إلى الفن الشعري, ولأن نظرتهم إلى الفن الشعري مطابقة لنظرته على الرغم من اختلاف أحكامهم الفنية المستنبطة من هذه النظرة.
ومهما يكن فإن هناك ثلاثة أمور عضدت اتجاه النقد الفلسفي إلى محاكاة أفلاطون وهي غلبة الشعر الغنائي, وأجلال الشعر الجاهلي, وربط الشعر بالفنون النفعية عموماً و بالتصوير خصوصاً.
غلبة الشعر : الشعر الغنائي :
هو شعر يعبر عن أحاسيس الشاعر ولا يتناول قضايا المجتمع إلا ما قل، دائماً نضع نقيض له الشعر الملحمي.
كان لغلبة الشعر الغنائي عند العرب أثراً كبيراً مما أدى إلى عدم فهمهم للنقد اليوناني عامة وللأرسطي خصوصاً. وذلك لأن أرسطو وضع قواعد الشعر الموضعي الّذي تولد عن الشعر الغنائي, ويقول “ إن من كانوا مجبولين عليها منذ البدء – و يقصد المحاكاة – أخذوا يرقون بها قليلاً قليلاً حتى ولدوا الشعر من الأقوال المرتجلة ثم أنقسم الشعر تبعاً لا ختلاف الأفراد من قائليه.
فضل أفلاطون الشعر الغنائي لأنه يحتوي على غاية خلقية وهي التغني بالبطولات. أما أرسطو فقد أعرض عنه لأنه يعتبر الفعل جوهر المحاكاة, لذلك لم يدخله في قضاياه الأدبية .
أما النقاد العرب فقد وجدوا أن الشعر الغنابي ينشد الفردية وكذلك شعرهم فهو يتغنى بالذات وذلك تبعاً للنزعة الفردية الطاغية, فهم يرون أن الشعر هو مرآة تعكس الشعور الفردي وما على الشاعر إلا أن يرغب أو يطرب أو يرهب لكي يتدفق بما يخاله من مشاعر – فليس هنالك مجال لعناصر الشعر المسرحي" التحول – التعرف - العقدة – الحل “ والدليل على ذلك أن ابن رشد عندما حاول تطبيق التطهير قال ذلك لا يوجد إلا في القصص القرآن وما جاء عند زهير في معلقته داعية السلام جاء عرضاً وأنه لم يخرج عن النمط السائد، بل إن الشاعر العربي قد اغفل فيما بعد الاهتمام بذاته لينتقل إلى الاهتمام بالتقليد في أمرين: أولهما تقليد الأشياء الظاهرة في الطبيعة، وثانيهما تقليد الأنماط الظاهرة في الفن وبذلك ضاقت أمامه سبل الخيال الشعري فراح يدور في فلك التشبيه، فهو الفن الّذي كان سائداً.
أجلال الشعر الجاهلي :
نعم الشعر الجاهلي بالإجلال عند النقاد العرب ويرجع ذلك كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي “إلى أن النقد العربي ابتلى منذ عهد مبكر بعلماء اللغة الذين كانوا يجلون الشعر الجاهلي إجلالاً عظيماً لأنه مصدر علومهم الوحيد تقريباً, فلم يأبهوا للمعاني الإنسانية فيه ويقول عن ذلك :” والشي المؤلم حقاً أن الشعر دخل منذ البداية في باب علوم العربية لأنه كان يدرس لاستخلاص الشواهد النحوية والصرفية واللغوية فوجدت هوة هائلة بين علماء العربية وبين علماء الثقافة الإنسانية” وإن الشعر الجاهلي يمثل النشأ الأولى للشعر العربي ويقول الدكتور مصطفى ناصف “ نشأ الأدب العربي من الأدب الجاهلي, وإن الأدب العربي ينبع من الأدب الجاهلي ويصب أحياناً في تربة الأدب الجاهلي أيضاً “ فالشعر هو رمز ذواتهم ورمز حضارتهم وأي مساس به هو مساس بالحضارة نفسها.
وقد نظر النقاد العرب إلى الشعر الجاهلي نظرة محاكاة والأنموذج الّذي يجب أن يحتذيه الشعراء وإلا تعرضوا للنقد. ويقول عن ذلك الدكتور مصطفى ناصف: " ليس منا من لا يذكر فكره عمود الشعر, فقد كان عمود الشعر عندهم يشبه عمود الدين والحياد عنه بدعه من البدع, أوضلال ينبغي أن يتناول بالكراهة"
والمسلم به إذن ذلك الأثر الطاغي الذي طبع به الشعر الجاهلي الشعر العربي وإن ما ينطوي عليه الشعر الجاهلي من طابع حسي, جزئي ظاهري لا يأبه غالباً للفكر الإنساني ولا يحاول النفاذ إلى جوهر الظواهر المرئية.
ندرك كيف تأثر النقاد العرب بآراء أفلاطون وأخلدوا إلى مفهومه في طبيعة المحاكاة وكان ذلك وراء جفاف النقد وجمودة على طريقة واحدة هي الطريقة الجاهلية في فهم الشعر.
ينبغي أن نذكر هنا أن النقاد قديماً أحجموا تماماً عن الإصغاء إلى الشعر المحدث مهما بلغ من الإبداع وتروى في ذلك حكايات طريفة منها قول أبي عمر بن العلاء حين أعجبه بعض شعر جرير:" لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته" وقال الأصمعي:" جلست إليه ثماني حجج – يعني أبا عمر بن العلاء- فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فمن عندهم، وليس النمط واحداً، ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح" ويقولشوقي:" إنما جاءتهم هذه العصبية من وظيفتهم، فقد كانوا يعدون أنفسهم حماة اللغة، والحرس على تراثها، ولم يكن يهمهم من الشعر إلا المثل والشاهد في دراستهم".
ربط الشعر بالفنون عامة والتصوير خاصة :
ثمة عامل وجهه أذهان النفاد إلى مفهوم أفلاطون وحال دون إدراكهم لمفهوم أرسطوا، وهو العلاقة بين الشعر والفنون الأخرى وقد ذهب أرسطوا إلى أن الفنون جميعاً تحاكي جوهر الأشياء وإن اختلفت في وسائلها.
إلا أنهم جعلوا الشعر كالتصوير واغلفوا الرقص والموسيقى وذلك لإجلالهم فن التصوير أو إلى غموض الصلة بين الشعر والموسيقا في أذهانهم، فقد يرجع ذلك إلى بيئتهم وأسهامها في غموض هذه الصلة لأن النقاد يتكلمون عن التصوير من خلال النسج والنقش, والصياغة والتجارة وهي كلها فنون مرئية, و يقصدون بها ربط الشعر بالفنون وغاب عنهم ربطه بالموسيقى التي تتسرب بايحائها إلى الشعور, بينما يفتن التصوير مجال العين المرئي وخاصة إذا اقترن بالمادة المشكلة كالخاتمة والثوب وذلك يفضي إلى إثار اللفظ على المعنى.
من هنا بدأ انصراف النقاد إلى فرضية أن التصوير أنما يظهر في اللفظ أي الشكل دون المعنى ثم أصبح اللفظ مناط الجهد ومجلى الفن لأن النقاد يرون أن الشعر فن يرجع إلى اللغة لا إلى الإنسان.
وقد أولع النقاد بعقد الصلة بين فن الشعر وفن التصوير ويقول الجاحظ:" إن الشعر “ صناعة أوصياغة “ وضرب من النسيج وجنس من التصوير وربما أشار ذلك إلى تغليب اللفظ على المعنى ويرجع شوقي ضيف الأسلوب لا الألفاظ. والذي يعنينا هنا هو ربط الشعر بالنسج والتصوير على نحو أصبح فيما بعد حجة النقاد على اختلاف مذاهبهم. ويقول قدامه:“ إن المعاني للشعر بمنزلة المادة المصنوعة مثل الخشب للنجار والفضة للصياغة “ أما ابن سنان الحفاجي فقد أضفى على المقارنة صيغة فلسفية وقصرها على فن النجارة, وقد نبه عبد القاهر إلى أنه الأمر لايرجع إلى المعنى ولا إلى اللفظ بل إلى النظم .
ويلاحظ أنهم لم يكونو يريدون بالتصوير فنون النحت والرسم وإنما يريدون تلك الفنون العملية النفعية القائمة على الزخرفه والتجانس بين الأشكال والألوان والرسم على نحو ما يكون فيه للبصر المقام الأول وسواء كان النقد خاضعاً في ذلك للشعر أم موجهاً له فقد أفضى ذلك إلى جمود الشعر حول المفهوم الحسي المرئي للمحاكاة. وربما قيل إن علاقة الشعر بالتصوير لا تفضي بالضرورة إلى المفهوم الحسي الذي يقصر الخيال على الصنعة الزخرفيه.
ومن هنا ينبغي لنا أن نتذكر أن معظم ما دار في كلام النقاد حول التصوير والتخييل إنما يرجع إلى مفهوم التشبيه فالتشبيه عندهم هو روح الشعر.
مفهوم المحاكاة عند النقاد العرب
المحاكاة و التشبيه :
لا يخفي أن الفهم الذي وصل إلى أذهان النقاد العرب هو ربط المحاكاه بالتشبيه نتيجة لغنائية الشعر. وإذا وجدنا الترجمة الحرفية لكتاب أرسطوا “ فن الشعر “ نجد أن المحاكاة هي التشبيه عند الفارابي و ابن رشد ثم انتقل هذا الفهم إلى أذهان النقاد والعرب.
الزمخشري :
هذا الفهم نجده عند الزمخشري في “ كتابه الكشاف” وهو دراسة القرآن دراسة بيانية إلا أن هنالك بعض الآيات قد استعصت عليه فأولها عبر فهمه وقد وقف عند الآيات نحو قوله تعالى:﴿ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا﴾ قال الزمخشري معنى ذلك “ أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته, ووحدانيته, وشهدت بها عقولهم, وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلنا مخيرة بين الضلالة والهدى “ ويرى الدكتور مصطفى ناصف:“ أن صعوبة وجود حدى المجاز في بعض الآيات، هي التي قادة الزمخشري إلى تعبير التخييل الّذي يجرد ظاهر الآيات من تجسيم مادي، ويردها إلى معنى عقلي، فالتخييل إذن هو تصوير حسي لمعنى ذهني، أوإذا كان كناية لم يجد ما كني عنه وما هي العلاقة، إذاً على الأنسان إعمال ذهنه وخياله لإدراك المعنى.
ونفهم من هذا أن الزمخشري يبحث عن مشبه ومشبه به في الكلام وهذا هو الأسلوب النقدي، هو أحد النقاد الذين اتبعوا النهج الإسلوب للنقد في دراستهم للنصوص في فترة مبكرة.
قدامة بن جعفر :
جعل قدامى بن جعفر من المحاكاة وصف ويقول:" الوصف إنما هو ذكر الشي كما فيه من الأحوال والهيئات, ولما كان أكثر وصف الشعراء, إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها ثم بأظهرها فيه, وأولاها حتى يحكيه بشعره و يمثله للحس بنعته “ فواضح أن قدامة لا يقتصر على جعل الوصف محاكاة للمعاني التي يتألف منها الشيء الموصوف فحسب، وإنما جعله محاكاة حسية أيضاً.
عبد القاهر الجرجاني :
فهو يجعل من المحاكاة تشبيه ثم يصبح التشبيه عنده هو المعنى الكامن في مختلف المصطلحات التي يوردها مثل التمثيل, التخيل, التأويل، القياس كما يظهر في شرحة لهذا البيت الذي جعله مثلاً للتمثيل يقول:
كأن النجوم بين دجاه سنن لاح بينهن ابتداع
يقول في شرح ذلك:" إن تشبيه السنن بالنجوم تمثيل والشبه عقلي وكذلك تشبيه خلافها من البدع والضلال بالظلمة ثم أنه عكس فشبه النجوم بالسنن كما فعل فيما مضى من مشاهدات وإنما يقصد بالتشبيه في هذا الضرب ما تقدم من الأحكام المتأولة من طريق المقتضى. ويقصد من أراد أن يفهم هذا البيت فعليه, تؤل السنة طريق الهداية بالنور والبدعة طريق الضلال فهي الظلمة. فصار تشبيه النجوم بين الدجى، بالسنن بين البدع على قياس تشبيههم النجوم في الظلام، ببياض الشيب في سواد الشباب" وهكذا فهم عبد القاهر أن المحاكاة هي التشبيه.
حازم القرطاجي :
هو الذي تبنى الفكر اليونان في كثير من أرائية النقدية حتى أصبح ممثلاً للفكر اليوناني في النقد العربي ولكن رغم ذلك لم يخرج من فهم المحاكاة بأنها التشبيه ويتضح ذلك في معرض حديثة عن التناسب بين المعاني كقوله:“ وما جُعل فيه أحد المتناسبين على هذه الصفه مثلاً للأخر ومحاكيا له, فهو تشبيه". “ وتنقسم المحاكاة على على جهة ما تكون مترددة على السن الشعراء قديما بالعهد ومن جهة ما تكون طارئة مبتدعة لم يتقدم بها عهد قسمين :
القسم الأول : هو التشبيه المتداول بين الناس, والقسم الثاني : هو التشبيه الذي يقال فيه : إنه مخترع وهذا أشد تحريكا للنفوس إذا قدرنا تساوي قوة التخيل في المعنيين “ فهو يجعل المحاكاة تشبيه والمحاكيات تشبيهات فكأن التشبيه هو الفلك الّذي تدور فيه المعاني النقد جميعها.
المحاكاة و الزخرفة :
الزخرفة هي فن الشكل ومعناها العميق, وهي من وحي الخيال لأن الإسلام منع الفنانين المسلمين من تجسيم الأشياء لذلك أستوحى الفنان شكل الزخرف الإسلامية وهو فن خالص للمسلمين فقط وقد أسماه الغربيون “ فن الحرية المطلقة “ لأنه اطلاق لخيالات الفنان, ولعل أفلاطون أول من قدم الفنان على المصلحة “ كان يقول: إن الفن ضرب من اللهو واللعب وأول لعب الإنسان كان فناً. فهو يحاول الربط بين الفن واللهو و قال إن الفنون نوع من اللهو الجميل. وهذه النظرية أرادت أن تحد خيال الفنان من قيود المعنى الذي يعبر عنه وهمه في ذلك تقديم صورة رائعة وجميلة.
العلاقة فلسفة بالجمال بين “كانط” و النقاد:
إذا كان كانط يرى أن فن الجمال متمثلاً في الشكل فإن المسلمين فهموا أن الجمال يتمثل في شكل المحض دون ربطه بالمعنى وقد طرح كانط هذه الفكار بغية تحرير خياله من قيود المعنى، أما المسلمون فقد جعلوا الجمال متمثل في الشكل ولكنهم قيدوه بقيود العراف اللغوية والأدبية والاجتماعية لا بقيد المعنى وهذا الإطار يجب الإتزام به ويجب لا يخرج عنه وهذا ينطبق على فن المحاكاة في الشعر، لذا فالزخرفة لا تشبه الشعر، والزخرفة هي فن الإلهام وهي مجردة من محاكاة الأشكال الطبيعية وهي قمة الإبداع الفني لأنها لا تقيد بقيود. وهكذا أصبحت الزخرف فن موسيقا الشكل بينما التشبيه هو فن تصوير الشكل، ولا شك أن أثر العامل الديني ظاهر هنا، لأن ما أُثر عن تحريم تصوير الأشكال الحية هو الذس أفضى بالفن الإسلامي إلى المثالية والتجريد والرمز وهي الأمور التي حرم منها فن التشبيه، والغريب العامل الديني الّذي منحة الزخرفة صبغة روحانية مجردة، لم يمنح الشعر هذه الصبغة، ومن ثمة فقد أُتيح لفن الزخرفة من التطور ما حرم منه فن الشعر، ولو أُتيح له ذلك لاقترب فن التشبيه شيئاً فشيئاً من فن الموسيقا.
المحاكاة عند حازم القرطباني :
مفهوم المحاكاة :
حازم القرطباني هو أحد النقاد العرب الذين تأثروا بالفكر اليوناني ويعد حازم القرطباني المترجم الحقيقي للفكر اليوناني، لذا نجد كثيراً من الدراسات الحديثة اهتمت بكتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ولأنهم يروا أنه يحتوى على أفكار النقد اليوناني.
تحدث حازم عن مجموعة قضايا كقضية المحاكاة وكان حديثة عن طبيعتها إلا أنه لم يأتِ بجديد لكن حاول تطبيق هذه الأفكار ووصل إلى ملاحظة قيمة هي أن المحاكاة عند اليونان تقوم على الفعل وعند العرب تقوم على الشكل الظاهري وحاول تطبيق التطهير وفهم بأنه سعي المحاكاة لا يثارة المتلقي وهذا مفهوم أرسطو، وتحدث بعد ذلك عن التنقيح والتحسين وبذلك انتعد كثيراً عن مفهوم أرسطو وكان فهمه للمحاكاة كالنقاد أنها تشبيه لأنها لا تحاكي الفعل الانساني وإنما تحاكي الأشياء .
ويقولون إنه تأثر بما وجده عند الفارابي وابن سينا وهو يصرح في كتابه الّذي أورد فيه هذا النص “ هذا هو تلخيص القدر الذي وجده عند المعلم الأول وقد بقي منه شطر صالح لايبعد أن نجتهد نحن فنبدع في علم الشعربحسب هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل" وهو يقصد أرسطو بقوله إجتهاده لقوانين الشعر بحسب الزمان والمكان. إذن مفهومه يقوم على ترجمة أفكار ابن سيناء والفارابي.
طبيعة المحاكاة والوضوح والغموض :
يقول إن الشئ حاكى شيء فهذا يتطلب الوضوح وقد قسم المحاكاة إلى ما يحاكي في نفس بالوصف وما يحاكى غيره بالتشبيه وليس هناك فارق بينهما إلا في كون الوصف مباشر والتشبيه غير مباشر أوالوصف يتناول الشي بدون واسطة و التشبيه يتناوله من خلال مقارنته بشي آخر. ومن خلال ذلك يبدوا أنه تأثر بالفارابي في حديثه عن صورة التمثال والمرآة، وتأثر بابن سيناء في المحاكاة باليد قد يمثل صورة الشي نحتاً وخطاً فتعرف المصور بالصورة وقد تأخذ مرآة يبدوا لك بها إنسان الصورة فتعرفه على هذه الصورة يخيل لك الشاعر صورة الشي بصفاته نفسها وتارة يخيلها لك بصفات شي آخر هي مماثلة لصفات ذلك الشي وذلك نتيجة لما وجده عند الفارابي وابن سيناء وأن ترجمته لم تكن ترجمة كاملة وقد أدرك أن الفهم اليوناني لا يحكي سوى ما كان في القرآن الكريم لأنه يحاكي الفعل الأنساني و يسعى لتطهيره، ومن هنا نفهم أن حازماً يربط المحاكاة بالتشبيه ولا يستطيع أن يتخلص من الاعتقاد السائد في نفسه بل كان أكثر تشدد في ربط المحاكاة بالتشبيه.
ربط المحاكاة بالتشبيه بالوضوح :
ينبغي أن ننظر إلى المحاكاة التشبيهيه من جهات: من جهة الوجود والفرض وهنا تكون المحاكاة بأمر موجود لامفروض, ومن جهة الأدراك ينبغي أن تكون المحاكاة في الأمور المحسة حيث تساعد المكنة الوجوه المختارة بالأمور المحسة، وبها يحسن أن تحاكي الأمور غير المحسة حتى يأتي بذلك ويكون بين المعنيين انتساب، ومحاكاة المحس بغير المحس قبيحة" وفي هذا يتفق مع فهم الفكر اليوناني “ أرسطو” محاكاة الكائن وما يجب أن يكون.
يقول إن الأشياء منها ما يدرك بالحس ومنها ما ليس إدراكه بالحس والذي يدركه الإنسان بالحس فهو الذي تتقبله نفسه لأن التخييل تابع للحس وكل ما أدركته بغير الحس فإنما يرام تخييله بما يكون دليلاً على حالة من هيئات المطيفة به واللازمة له حيث تكون تلك الأحوال مما يحس ويشاهد فيكون تخييل الشي من الأثر والأحوال اللازمة له حالة وجوده. فالقصة, و الزخرفة تخييل و فن الرواية العربية تحاكي الفعل الإنساني و بالتالي تمثل الملحمةالحديث للعرب.
الإغراب في الشعر ومطالبة الشاعر بالوضوع :
قرن حازم المحاكاة بالإغراب، وجعل ذلك مما يلائم النفس، وقد أورد ذلك في تعريفه للشعر، وقد ظهر في حديثه أنه يؤثر كا ما هو مألوف أو يفضل قرب التشبيه، وعلى ضوء ذلك قسم التشبيه إلى متداول ومخترع، ويقول المخترع أشد تحريكاً للنفس إذا قدرنا تساوي قوة النخييل في المعنيين لأنها آنست بالمعتاد, فربما قل تأثيرها له وغير المعتاد يفجؤها بما لم يكن به استئناس لأن النفس تميل إلى الشي الغريب أي بالنفور عنه أوالاستعصاء عليه وذلك لجماله أوقبحه. إذن الإغرب في مفهومه مربوط بالتشبيه وهو لا يقوم على الغموض, وهنا يقترب حاوزم من عبد القاهر الجرجاني في مفهمه “ للتعجيب والتغريب“
المحاكاة بين الصدق و الكذب :
ولعل الذي جعل حازم في طليعة النقاد الذين ترجموا الفكر اليوناني فكرته عن مفهوم الصدق والكذب فهو لم يجعل الشعر صدقاً ولا كذباً وإنما المهم فيه عنصر التخييل أي المحاكاة “
كيف فهم هذا الفهم وهل حاول أن يطبقه؟ يقول إن قوام الشعر ليس الصدق أوالكذب وإنما التخييل, والشاعر قد يخيل ما هو صادق وقد يخيل ما هو كاذب ولا يكون شاعراً باعتبار ما يخيله وإنما يكون شاعراً باعتبار قدرته على التخييل، والتخييل ينظر إلى الشي نظرة الفن لا نظرة الخلق, وإذا ما أجاد تصوير الشي ولم يبال أن يكون عذا الشي صادقا أم كاذبا، فالتخييل هو المطلوب في الشعر وهو والمعتبر في صناعته، لا كون القاويل صادقة أو كاذبة.
ويقول أفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيئته وقويت شهرته أوصدقة أوخفي كذبه وقامت غرابته وإن كان قد يُعدُّ حذقاً للشاعر اقتداره على ترويج الكذب وتمويهه على النفس واعجالها إلى التأثر له قبل بأعمالها الروية فيما هو عليه. فهذا يرجع إلى الشاعر وشدة تخيلة في إيقاع الدلسة للنفس في الكلام.
إذن حازم سعى لدرء تهمة الكذب عن الشعر؛ أي “ أعذب الشعر أكذبه “ وهو يصرح بأن دفاعه عن الأقاويل الصادق في الشعر إنما يرجع إلى رغبته في رد القول السابق، فيظن أن التشبيه والمحاكاة من جملة كذب الشعر. وليس كذلك لأن الشي إذا اشبه الشي فتشبيهه به صادق لأن المشبه مخبر أن شيئاً أشبه شيئا وهو بلا شك الصدق. فتبين أن الوصف والمحاكاة لا يقع الكذب فيهما إلا بالافراط وترك الاقتصاد.
لقد خلص حازم إلى أن من يقول أن مقدمات الشعر لا تكون إلا كاذبة فهو كاذب ومثله من قصر الشعر على الكذب مع أن الصدق أنجع فيه إذا وافق الغرض، ويقول عن الصدق:" ما وقع من الوصاف والمحاكاة مقتصداً فيه، غير متجاوز، فهو قول صادق".
وحدة الموضوع ونظام القصيد عند حازم :
يبدوا أن النقاد العرب قد شغلوا بوحدة الموضوع التي تحدث عنها أرسطو وحاول الفلاسفه من قبلهم ترجمتها و روابطها بالوحدة ونظام القصيدة.
لم تجد لحازم رأياً يخالفهم من حيث الفكرة فهو سار على نهج من سبقوه في وحدة الموضوع نظام القصيدة– والذي يبدو أنه حاول الاعتماد على الفكر اليوناني – ولكن ترجمته كانت ترجمة فكرية لم تتعمق مفهوم الفكر اليوناني.
فكرته في وحدة الموضوع :
يرى حازم أن الشيء يجب أن يحاكى بحسب ترتيب أجزائه، فتكون محاكاته بالقول كمحاكاته بالرسم من حيث ترتيب أجزائه على ما هي عليه في الطبيعة وهذا يعني أن القصيدة تشبه الحيوان فإذا أرادنا رسمه فعلينا أن نرسمه كاملاً منظوماً. وبهذا فقد كررما قاله لكن بطريقة أخرى, ثم تحدث عن تعدد الموضوعات؛ من وقوف على الأطلال ثم الوصف وهو يرى أن هذا التعدد شيء جميل لأنه يرى أن القصيدة إذا أُفرقت في قالب واحد كان ذلك أدعى إلى السأم والملل لأن التعدد يجدد الإحساس بالقصيدة، وهذا تقليد لأرسطو. ولعل الغريب في فكره أنه لم يتحدث عن الموضوعات فقط وإنما اتخذ من هذا نهجاً يدعو الشعراء إليه ويحدد لهم ماذا يقولون في المديح والهجاء؛ أي في الغرض الذي يريدون أن يكتبوا فيه، ثم تحدث عن ظاهرة الانتقال من غرض إلى غرض وسمى ذلك طرق الاحتيال في جمع طرفي القصيدة؛ أي القول على نحو محكم لا يختل به نظام القصيدة. ثم وضح أن طرق احتيال تنقسم إلى أقسام منها 1- التدرج في الانتقال بما يمت إلى الغرض الأول بسبب (حسن التخلص) 2-الثاني هو الانتقال المفاجئ من غير مقدمة سواء بموافقته أوبمناقضته أما على سبيل التشبيه أوالمحاكاة وأما بالاضراب عن مقصد والاعتداد بالآخر. ثم بدأ بوضع نظام للقصيدة مطلعها ونهايتها. ويقول يجب أن تكون البداية جزلة حسنة المسموع والمضمون دالة على غرض الكلام و جيزة تامة.
ثم في حديثة عن الموضوع تحدث عن الأغراض كالمديح والهجاء والتناسب بين المقدمة والغرض الذي من أجله أنشأ الشاعر القصيدة ويبدو أن كلامه يناقض ما قاله عن مفهوم المحاكاة “ إن المحاكاة هي التخييل ولم يترك مساحة للتخييل بل قيده بمجموعة من التفاصيل والقوانين. فقد اختار مثلاً في المديح قواعد لمدح الوزير أوالخليفة، وهنا نجده خالف فكرته لأنه قال لا يقوم الشعرعلى الصدق أوالكذب بل يقوم على التخييل ومن هنا نفهم أنه أحال الشعر من العاطفة إلى العقل.
الطبع والتطبع :
إذا كان حازم يؤكد قوة التخييل في فهمه للمحاكاة كان عليه أن يقف بجانب الشاعر المطبوع لأن الشاعر يعبر عن قوة تخييله للموضوعات ويكون صادقاً فيما يعبر عنه أما التصنع فهو صنع الشاعر إحاسيس يكتب فيها شعراً يجاري به الشاعر المطبوع، وهو شعر يفتقد الصدق والإحساس وقوة التخييل ويلحظ في حديثه عن الشعر المطبوع والمصطنع أنه يساوي بينهما وخاصة إذا أجاد الذي يصطنع الطبع فينزله منزلة الشاعر المطبوع وهنا يخالف ما أورده في أمثلته السابقة.
إن الذي دفع حازم أن يدخل في هذا التناقض أنه عندما أراد أن يحدث عن وحدة الموضوع إما يكون هذا التناقض ناشي من عدم إستيعابه للفكر اليوناني تاماً أو أنه استوعبه و لم يتقبله أويعود إلى تأثره بالنقاد الذين سبقوه، فهو يردد آراءهم بعيداً عن الفكر اليوناني، لكن ماقدمه حازم يعد ثمرة استطاع أن يطبق المناهج النظرية السابقة.
و الله ولي التوفيق
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)