الأحد، 25 أبريل 2010

abuhidaya25@blogger.com

بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة الإمام المهدي
كلية الآداب قسم اللغة العربية
الفرقة الثالثة “أ” مذكرة في مادة أصول النقد
إعداد الدكتور :
أبو هدايا ضو البيت
عن كتاب أصول النقد د.عصام قصبجي




المحاكاة عند الفلاسفة
أ-أفلاطون :
مفهوم المحاكاة عند أفلاطون :
هناك علاقة جوهرية بين النقد والمحاكاة منذ أن طلع أفلاطون بنظريته التي فسر بها حقائق الوجود إلى أن قال : “ شلي “ “ إن الشعر فن قائم على التقليد “ بيد أن المعضلة حقاً هي العلاقة بين النقد والفلسفة, وقد حمل أفلاطون على الشعر حملة ميتا فيزيقية نابعة من نظريته في المثل التي قيل إنه أراد بها :” أن تعبر عن طبيعة النظرة العقلية للعالم من حيث إنها تتخلى عن الطابع العرضي للظواهر المتغيرة “ وربما كانت صورة الكهف الشهيرة التي أوردها أفلاطون في جمهورية هي خير تعبير عن نظرية المثل من حيث صلتها بنظرية المحاكاة. فهو يرى أن ما نراه وندركه من الأشياء يشبه ما يدركه أناس ينظرون إلى ظلال نار على جدران الكهف و قد أداروا ظهورهم إلى فتحته التي تتأجج أمامها النار فهؤلاء إنما يدركون الظلال المرتسمة على جدران الكهف فيخالونها الحقيقة, فإذا ما تجردوا من قيود الظاهر و غادروا كهفهم أبصروا حقائق الأشياء في النور بعيداً عن الظلال. فكأنما عالم المثل هو الماهية الحقيقية التي تسبق الوجود وما الوجود إلا محاكاة حسية مثل الظلال من النار الحقيقية. وهكذا قد خُلق التمييز الفلسفي الأساسي بين المظهر والحقيقة. وأكدت أولوية عالم الأفكار وفوق عالم المحسوسات.


الفن عند أفلاطون :
فصل أفلاطون بين الفكر والفن وهو يرى أن الفنان إنما يحاكي ظاهرة العالم الحسي. وهو بذلك يسلبه عنصر التفكير، فيعد إبداعه الهاماً علوياً لا ينطوي على جهد ذهني خاص به. ويقول فايدروس “ غير أن هنالك نوعاً ثالثاً من الجذب والإلهام “ مصدره ربات الشعر إن صادف نفساً طاهرة رقيقة أيقظها فاستسلمت لنوبات تلهمها بقصائد وشعر تحي به العديد من بطولات الأقدمين “ و هنا يظهر لنا أن أفلاطون فرق بين الشاعر المحاكي والشاعر الملهم, فجعل للملهم مقاماً أسمى من المحكي وأغلب الظن أنه كان يزدري شعر المحاكاة خاصة من حيث إنه تصوير سلبي للظلال.
ويقول محمد غنيمي هلال معقباً على نظرية أفلاطون : الشاعر أوالفنان بعامة يعكس لنا في فنه خيالات الأشياء أومظاهرها لا جوهرها وهو في ذلك في مرتبة دون الفيلسوف بل دون مرتبة الصانع ...الخ، و بذلك وضع الشاعرفي رتبة دون الفيلسوف و دون مرتبة الصانع و ذلك لأن النجار مثلاً يحاول أن يقرب في صنعته لسرير خاص أو منضدة خاصة من درجة الكمال بتأمله في صورة السرير المثالية أو المنضدة المثالية وهي الصورة العقلية الثابته الخالدة التي هي من خلق الله بينما يحاول الشاعر وصف المنضدة فهو يحاكي منضدة هي بدورها صورة ناقصة للصورة المثالية. وكذلك شعراء المأسى “ الكوميديا و التداجيديا “ يحاكون الأشياء و الحوادث على هذه الصورة البعيدة من جوهر الحقيقة ومن صورها الخالده المثالية ولا يغوصون إلى الحقيقة وجوهراها .
فكرته في الأدب :
إذن فكرته عن الأدب هو مجرد مرآة تعكس الواقع الخيالي وهو تصوير ساذج للواقع وكذلك للبيئته من حوله ثم تسربت هذه الفكرة إلى النقد قديماً وحديثاً وإنما الأدب في عصرنا هذا يزين الواقع. ويقول “ إن المقلد لا يعرف شيئاً مهما عما يقلده، فالتقليد لهو وتسلية لا عمل جدي وإن الشاعر الملهم ما هو إلا متلقي يخفي ببلاغته الحقائق عن الناس” فهو لا يخدم قضيته لأنه يرى أن الفن ما لم تكن له غاية معرفية وقيمة حقيقه فهو ليس بفن عنده لأن الفن محاكاة لجوهر الأشياء.
معيار الفن عند أفلاطون:
هو الحقيقة وأن السبب الحقيقي لحملته على الشعر هو مقته البالغ للمحسوسات وتجريده لها من كل عنصر ذهني وانصرافه عن الأخلاق فالشعر عنده عدو الحقيق .
تلخيص فكرة أفلاطون :
الشعر يجب أن ينشد الحقيقة والأخلاق معاً “ وخيانة الحقيقة خطيئة” ولا نسمح لشاعر أن يقول إن الله سبب العقاب الذي آل إلى شقاء عبده “ وبهذا الفهم يسعى أفلاطون إلى طهارة الحياة ويهاجم كل ما يمكن أن يسئ إلى هذه الطهارة, والشعر كما عهدة كان يسئ إليها بتصوير الآله على نحو ضار لذا يقول :" لا تنسى أن الشعر لا يباح في الدولة إلا في تسبيح الله ومدح الصلاح " أما الإدعاء أن الإ له الصالح علة شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوة، ومن هنا تبدو حكمة النظرة الفلسفية للأدب عنده، فهي تنشد القيم والأخلاق وهذا واضح من خلال أراءة .
الوحدة العضوية :
تحدث أفلاطون عن ضرورة تماسك الهمل الأدبي فتناول الوحدة العضوية الحية في الفن وهذا يدل على أن نظرية المثل تحض على التخلي عن الطابع العرضي قائلاً : “ يجب على كل حديث أن يكون مكوناً على شكل كائن حي له جسم خاص به بحيث لا تنقصه رأس ولا أقدام بل لا بد له من وسط مع وجود طرفين يكونان قد ركبا بشكل يتفق بعضه بعضاً ومع الكل" صفوة القول إن المحاكاة عند أفلاطون هي تصوير لظاهر الطبيعة على نحو يشبه فيه الشاعر الرسام الذي يحاكي الشي ولا يحاكي “المعنى” أوالمثال فيتأخر بذلك عن الصانع الذي يحاكي مثلاً عقلياً إلهياً ثانياً .
أرسطو
مفهوم المحاكاة عند أرسطو :
اختلف مفهوم المحاكاة عند أرسطو عن مفهوم المحاكاة عند أفلاطون اختلافاً جوهرياً نابع من اختلاف النظرة الفلسفية, فأفلاطون كان ذا نزعة صوفية غائية وفكرة اعتقادي مع عدم تحققه لموازنة الخير والشر، فتبدو أفكاره مثالية لا يمكن تحققها في الواقع, وفي جانب آخر بنى أرسطو أفكاره على التجربة العملية التي تصلح للتطبيق في أرض الواقع. لذلك لم يذعن لنظرية أستاذة في المثل .
الفن عند أرسطو :
يرى أرسطو أن الفن حقيقة هو محاكاة للطبيعة ولكنه لم يربط محاكاة الفن للطبيعة بمفاهيم المثل كما فعل أفلاطون لأن الفن عنده يحاكي الطبيعة ولكن الطبيعة ليست محاكاة لعالم عقلي. وهو يحاكيها بعد فهمها على نحو متكامل منظمة وإذا كانت المحاكاة عند أفلاطون نظرية فلسفية فإنها عند أرسطو نظرية فنية . فالشاعر ليس حامل مرآة ينظر إلى مظاهر الأشياء فيها وإنما يحاكي ما يمكن أن يكون لا ما هو كائن.
ويقول إن عمل الشاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه, و ما هو ممكن على مقتضى الرجحان أوالضرورة فإن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بأن ما يرويانه منظوم أومنثور بل هما يختلفان بأن أحدهما يروي ما وقع على حين أن الآخر يروي ما يجوز وقوعه ومن هنا كان الشعر أميل إلى قول الكليات على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات. ومن هنا كان تفضيل أرسطو للشعراء ووضعهم في طبقة عليا وإن أرسطو استوحى فكرة ممن سبقوه قديماً كما يعلق على ذلك ديدرو فيما بعد قائلاً:" أن الفنان لا يحاكي الطبيعة ولكنه يجملها، فالفن يجمل الطبيعة، ويبدو كأنه يضرب المثل لكي تحاكيه الطبيعة ولا يحاكيها، والفنان لا يقتصر على رسم الواقعالمباشر لظاهر الشياء ولكنه يعبر عمّا هو جوهري فيها هكذا فجوهرالفن عند أرسطوهو محاكاة الطبيعة. وعلى ضوء ذلك فإن أرسطو يجعل الشعر في مقام علياً إلى جوار الفلسفة ولم يجعله في الدرك الأسفل بعد الصانع كما فعل أفلاطون.
المحاكاة في الفنون الأخرى :
المحاكاة في الفنون الأخرى عند أرسطو هي محاكاة للجوهر أي محاكاة للفعل الإنساني ويقول أرسطو في الفنون الأخرى كالرسم والموسيقى والرقص" الشعر إذا قيس بالفنون لا يقاس بالتصوير الذي تظهر فيه شبهه المحاكاة المطابقة للأصل إنما يقاس بالرقص والموسيقى ونحن نعرف كيف يغاير الراقص والموسيقار في محاكاته للطبيعة, وعلى شاكلتها يغاير الشاعر في المحاكاة" ومعنى ذلك أن الشعر ليس محاكاة مختلفة عن محاكاة أخرى أومحاكاة بواسطة كما هو واضح في نظرية المثل بل هو محاكاة للطبيعة تقف عندها ولا تتعداها إلى شي وراءها.
إذن هي ليست محاكاة آلية ساذجة بل محاكاة تظهر فيها موهبة الشاعر وأفكاره وخيالاته, فهي محاكاة تماثل الرقص والموسيقى .
أنواع المحاكاة :
يقول أرسطو : شعر الملاحم وشعر التداجيديا والكوميديا والدثورامبي وأكثر ما يكون في الصفر في الناي واللعب بالقيثار, كل تلك بوجه عام هي أنواع المحاكاة ويفترق بعضها عن بعض على ثلاثة: أما باختلاف ما يحكي به, أوباختلاف ما يحاكي, أوباختلاف طريقة المحاكاة, وجميع هذه الفنون تحدث المحاكاة بالوزن والقول والإيقاع أما بواحد منها على إنفراد أوبها مجتمعه, ويقول الوزن ليس جوهر الشعر و إنما جوهر المحاكاة .
وقد فضل أرسطو الشعر الملحمي تبعاً لاتجاه الحضارة الإغريقية ولأنه محاكاة لجوهر الفعل الإنساني وهو يرى أن الفعل الإنساني هو روح الشعر.
نظرية التطهير عند أرسطو:
ولعل النزعة الفلسفية في النفور من الجزيئات والتعلق بالكليات كانت علة انصراف الإغريق إلى الشعر الملحمي عن الغنائي, فالملحمة أدب موضعي يحاكي الفعل الإنساني على نحو منظم خاضع لقانون الإحتمال والضرورة بغية تطهير النفس من إنفعالاتها الضارة. أما الشعر الغنائي فتغلب عليه محاكاة المشاعر الفردية على نحو يفضي إلى الجزئية بل أنه قد يفضي إلى ضرب من الجمود بابتعاده عن محاكاة الفعل الممكن بما يعنيه من تطور وشمول.
الوحدة العضوية عند أرسطوا :
هي تلك الوحدة القائمة بمقتضى الضرورة والرجحان المعبرة عن فعل واحد تنتظم أجزاؤه بحيث لا يمكن نزع أحدهما, و يظهر ذلك في قوله الثاني: المحاكاة الروائية ينبغي أن تدور حول فعل واحد تام مكتمل له أول ووسط وآخر حتى تكون كالحيوان التام كما أنه في سائر الفنون المحاكية تكون المحاكاة الواحدة لموضوع واحد كذلك يجب أن تحاكي القصة عملا واحد وأن يكون هذا العمل الواحد تاماً وأن تنتظم أجزاء الأفعال فيه بحيث أنه لوغير جزء أونزع لا نفرط الكل واضطرب .
الماسأة و الملهاة :
فهو يفسر الملهاة والمأساة من خلال بحثه عنها في الطبيعة الإنسانية فيقول: إن المحكاة أمر فطري موجود في النّاس منذ الصغر والإنسان يفترق عن سائر الأحياء بأنه أكثرها محاكاة وأنه يتعلم أول ما يتعلم بطريق المحاكاة و دليل على ذلك ما يقع فعلاً : فإننا نلتذ بالصور الدقيقة البالغة للأشياء التي نتألم لرويتها كأشكال الحيوانات الدنيئة والجثث الميته ....الخ.
معيار الشعر عند أرسطو :
يقول أرسطو إن الشعر ينبغي أن ينشد الحقيقة بحسب مقدرته الفنية وبحسب تصوره للممكن المحتمل والمستحيل مع البقاء ضمن المألوف لأن ذلك يجعل من الشعر تعبيراً موضعياً يبدو بعيداً عن ذات الشاعر وهو الذي أفضى إلى القول بالوحدة الموضعية للعمل الشعري .
مفهوم المحاكاة عند الفلاسفة المسلمين :
لما كان لكل حضارة نظرتها الخاصة إلى الحياة بحيث تولد وهي تحمل معها صورة وجودها, فقد كان من الصعب على الحضارة الإسلامية الناشئة أن تفهم صورة الحضارات الأخرى على نحو حقيقي صادق لما تنطوي عليه من عناصر غريبة، فإنه غالباً ما يكون هذا الفهم ناقصاً كاذباً أومحرفاً خاضعاً لطابع حضارته الخاصة. فقد حاول “ متى بن يونس " منذ البداية تطبيق ظواهر الشعر اليوناني على الشعر العربي فترجم الماسأة بالمديح, والملهاة بالهجاء, و ذلك لأنه لم يكن يتصور نمطاً من الشعر يختلف من النمط العربي.
ولا غرابة أن العرب ترجموا أفكار أرسطو ولكنهم فهموا أفكار أفلاطون, ذلك أن مفهوم أفلاطون عن المحاكاة كان أقرب إلى طبيعة الشعر العربي, ولكن المعضلة حقاً هي أيضاً علة حملته على الشعر, فكأنّ النقاد العرب أقروا أفلاطون على أن الشعر تصوير حسي لمظاهر الأشياء ولكنهم لم يجعلوا ذلك سبباً في إزدراء الشعر و إنما جعلوه تبعاً لطابع شعرهم ومظهر الأبداع الفني.
الفارابي : مفهوم المحاكاة :
الفارابي أحد الفلاسفة المسلمين الذين حاولوا تطوير المحاكاة وذلك من خلال مقالته التي افترض أنها تلخيص لكناب أرسطو “ فن الشعر" و استخلاصه منهجاً ليطبق على الأدب وهو بذلك تأثر بالفكر الإفلاطوني قائلاً “ إن الأقاويل الشعرية كاذبة لامحالة، ما وقع منها في ذهن السامعين الشي المعبر عنه بدل القول وما يوقع فيه المحاكي للشي" وبذلك تنقسم محاكاة الشيء إلى ضربين؛س إلى ما هو أتم محاكاة، وإلى ما هو أنقص محاكاة .
الإيهام في الشعر :
تحدث الفارابي عن الإيهام الشعري أي غموض الكلام وحاول توضيح مفهوم الإيهام أي وهم المتلقي بغير الحقيقة من خلال إيهامه، فإن الإيهام يقع بما يقع فيه الإنسان من الخطأ وذلك بأن يرى الإنسان القمر من خلال الغيوم السارية فيخاله سارياً ولكن القمر لا يسير وإنما التي تسير هي الغيوم. أما محاكاة الشئ للشئ فهي كمن يأخذ مرآة فيعكس فيها الأشياء. وهذا فكر أفلاطوني للفارابي نابع من معطيات الحضارة الإسلامية لأن أفلاطون ينشد الحقيقة والحضارة الإسلامية تدعوا إلى القيم الفاضلة التي تبني عليها الحقيقة. و تعتبر ملاحظة الدكتور “إحسان عباس “ وتمييزه الشعر عن القول البراهاني ملاحظة قيمة
مقارنه الشعر بالفنون :
يرى الفارابي أن المحاكاة هي جوهر الشعر وحاول أن يلتمس من الفنون الأخرى فن يشبه الشعر فعقد مقارنة بين الشعر والنحت والرسم أي المحاكاة الظاهرية لأنه يرى أن هذه المحاكاة تكون لظاهر الأشياء، والشعر أقوال تحاكي ظاهر الأشياء، إلا أنه أغفل مقارنة الشعر بفن الموسيقى على الرغم من أنه كان بصيراً بالموسيقا عملاً ونظراً فإنه لم يفهم العلاقة بينهما. يقول إن المحاكاة قد تكون بالفعل كما في النحت وقد تكون بقول كما في الشعر ثم يذهب مره أخرى ويعقد مقارنة بين الشعر والرسم يقول إن بين أهل هذه الصناعة وبين أهل التزويق مناسبة لكنّهما مختلفان في مادة الصناعة، ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها أونقول: " إن بين الفاعلين والصورتين والغرضين تشابهاً، ذلك أن موضع هذه الصناعة الأقاويل (ويقصد بها صناعة الشعر) وموضوع تلك الاصباغ ويقصد بها ( صناعة الرسم ) وإن بين كليهما فرقاً إلا أن فعليهما جميعاً التشبيه وغرضيهما إيقاع المحاكايات في أوهام الناس وحواسهم" وكل منهم يحاكي الطبيعة ويسعى لتقريب الطبيعة في أوهام الناس، وذلك أن المحاكاة تقع في ظواهر الأشياء وهنا يتضح تأثر الفارابي بالفكر الأفلاطوني أيضاً وهو عدم الغوص في جوهر الأشياء وذلك من فهم الفارابي لكتاب فن الشعر لأرسطو.
ملاحظات الفارابي :
قد أشار الفارابي إلى ملاحظة قيم كانت ستغير وجه النقد لو فهمها الناقد وهي ووردت في حديث ابن رشد وهي فكرة الفارابي التي تقول “ إن كانت أكثر أشعار العرب -كما يقول أبو نصر – في النهم والكدية أي في أخذ المال عن طريق الاستعطاف والاستجداء أي الإقناع وفي شهوة الغرائز. فهاتين مرفوضتين في الحضارة الإسلامية لذلك يرى أن الشعر ضار بالمجتمع ويرى كذلك إبعاد الصغار عن شعر الغزل لأنه يفسد الولدان وبذلك حصر الشعر العربي على طرفين, طرف الحواس من الناحية الفنية وطرف الشهوات من الناحية الخلقية وهنا يظهر تأثر الفارابي بالفكر الأفلاطوني أيضاً.
إذن ما دفع الفارابي أن يحمل على الشعر العربي القديم هو الأخلاق، فقال إنه شعر لا ينشد الفضيلة بل يحض على إثارة الغرائز المادية .
اطلاعه على أشعارالأمم الأخرى:
اطلع الفارابي على أشعار المم الأخرى ووجد فيها ما يدعوا إلى صلاح المجتمع بخلاف الشعر العربي، ثم حاول التحدث عن الكوميديا والتراجيديا و جاء تفضيله على النظرة الأفلاطونية. يقول أما “ الطراغوزيا “ وهي الماسأة عند اليونان فهو نوع من الشعر له وزن معلوم يلتذ به كل من سمعه من الناس, لأو تلاة ويذكر فيه الخير والأمور المحمودة والمحروص عليها ويمدح بها مدبرو المدن كالفلاسفة في المدن الفاضلة. أما ديثرامبي “ الشعر الغنائي “ فهو نوع له وزن ضعف وزن “ الطراغوزيا “ ويذكر فيه الخير والأمور المحمودة والفضائل الإنسانية ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولكن تذكر فيه الخيرات الكلية وهو ما قال عنه أفلاطون الشعر “ التسبيحي “ وهذا يرجع إلى نزعته الصوفية الخلقية الواضحة.
المحاكاة و الوزن :
هذه ملاحظه جوهرية قيمة لو عمل بها النقاد الذين جاءوا من بعد الفارابي لأخرجوا النقد والشعر العربي القديم من دائرة الحسية إلى دائرة الحس الإنساني قائلاً : إن الشعر يعتمد على عنصرين جوهريين هما المحاكاة والوزن, أما الوزن فهو ضروري لكي يميز الشعر عن القول الشعري بيد أنه مع ذلك ليس من ضرورة المحاكاة التي تبقى أهم العنصرين، والمعضلة هي أن الناس أولعو بالوزن حتى لم يعد الشعراء يبالون أن يكون الشعر محاكيا إذا كان موزوناً وهكذا أصبحت مشكلة الشعر تنحصر في تقليب الوزن عن المحاكاة. الحق أن للشعر عنصرين مهمين هما المحاكاة والوزن، فالذي يفرق بين الشعر والأقوال الشعرية هو الشاعريه؛ أي المحاكاة والوزن لذا نجد أن المنظومات تخلوا من المحاكاة، وهذه لم تظهر إلا في العصر الحديث لأن القصيدة تعتمد على الكلام الداخلي للمحاكاة وتخلوا من الوزن وهي ظهرت عند الفارابي وحده وهي قريبة من أفكار أرسطو لأنها لا تحاكي أوزان الأنسان “ الأقوال المنظومة “
مفهوم الصدق و الكذب : “ التطهير “ :
تحدث الفارابي عن مفهمومي الصدق والكذب وتناول فكرة التطهير عند أرسطو قائلاً: “ والمحاكاة في الشعر ليست ولهواً أولعباً وإنّما هي تخييل يفضي إلى فعل معين فإن الإنسان كثيراً ما تتبع أفعاله تخيلاته وكثيراً ما يكون ظنه أوعلمه مضاد لتخيله فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه به أوعلمه فلذلك صار الغرض المقصود من الأقاويل المخيلة أن تنهض بالسماح نحو الشي الذي خيل له فيه أمر سواء صدق ما تخيله إليه من ذلك أو لا, كان الأمر في الحقيقة على ما قيل أم لم يخيل. إن الأقوال الشعرية قد تخيل أقوال تطابق الواقع أو لا تطابقه والمهم فيها تحريك الإنفعال الإنساني وتحركه بما تحدثه فيه من انفعال، وهنا اتفق الفارابي مع أرسطو في محاكاة الفعل الإنساني التي تؤثر في المتلقي وتثير فيه الانفعالات المطهرة سواء كانت مأساة أم ملهاة ويظهر ذلك في قصيدة “ ليلة ولاجئه “ حيث بث الشاعر فيها كثيراً من الانفعالات والعواطف التي استطاع من خلالها من كسب للتعاطف مع هذه القضية.
الإلهام في الشعر :
تحدث الفارابي عن الصنعة والإلهام كان الفارابي بصيراً بصنعة الشعر “ ومفهوم الصنعة عند الفارابي يرى أن الشاعر يجب أن يكون بصيراً بدقائقها عارفاً بخواصها و يرى أن الإلهام وحدة لا يكفي ولا بد أن يعرف الشاعر كيف يصب هذا الإلهام في قالب فني، وصناعة الشعر ليست خالية من الإحساس وإنما يجب أن يكون الشاعر ملما بعناصر الوزن ويكون شعره نابعاً من الإحساس، فيقول: " أحمد أنواع الشعر يفسر مفهوم الصنعة لأنه يرى أن الشعر يجب أن ينبع من داخل صاحبه “ فبهذا تحدث عن الصدق الفني.
ولا يعتمد على نماذج سبقته فيكررها، ويلاحظ أن الفارابي يتكل على أفلاطون وأرسطو كما قد حاول مزاوجتهما إلا أن أراءه لم تتح لها الفرصة للإفادة منها وخاصة قوله “ جانب الوزن والمحاكاة والكذب والصنعة والصدق الفني إلا ما كان عند المتنبي من خلال لقاء به عند سيف الدولة .
ابن رشد
مفهوم المحاكاة :
أراد ابن رشد أن يفهم المحاكاة عن أرسطو ولكنه منذ البدء حاول أن يطبق أفكار أرسطو على الشعر العربي دون أن يفلسف ما فلسفه الفارابي فهجم على الشعر بقوله “ إن كل قول شعري فهو إما هجاء, وإما مديح “ لأنه حاول أن يفهم كلام أرسطو عن الملهاة والماسأة ولم يقتصر على وضع الشعر فقط في دائرة المديح و الهجاء. وإنما جعل الفنون جميعها في هذه الدائرة، وهنا تظهر مغالطته وارتكابه للخطأ، لأنه ترجم المحاكاة مديح وهجاء – ثم قال إن الشعر هو التشبيه ولم يدع لنا فرصة للتساؤل عمّا يعنيه بالتخيل أوالمحاكاة وحاول تطبيق التخيل أي التشبيه بمفهومه العام وذلك من خلال قوله: “ الأقاويل الشعرية هي الأقاويل المخيلة وأصناف التخيل والتشبيه ثلاثة : اثنان بسيطان, وثالث مركب منها أما الاثنان البسيطان فأحدهما تشبيه شي وتمثيله به وذلك يكون في لسان لسان بلفظ خاصه عندهم مثل كأنّ, وأخال, و ما أشبه ذلك في لسان العرب وهي التي تسمى عندهم حروف التشبيه ....الخ “
ينبغي أن تعلم أن هذا القسم تدخل فيه الأنواع التي يسميها أهل زماننا استعارة وكناية، وهو فهم أن المحاكاة هي تشبيه كما فهم الفارابي حيث أصبحت المحاكاة هي فنون البلاغة التي تحاكي ظاهرة الأشياء وهنا اختلف عن أفلاطون. ثم تحدث عن المحاكاة من خلال حديثه عن التشبيه فتناول الماسأة والملهاة وعرف الملهاة أي صناعة المديح على أنها تقوم من مشبه ومشبه به, فالتشبيه يتم بالقول المخيل والوزن واللحن والمشبه به أوالمحاكى هي العادات والاعتقادات والنظر“ الاستدلال “ و لكنه عندما جاء إلى الشعر العربي و جد أنه لا يتضمن إلا المديح فكيف يطبق ذلك على الشعر العربي يقول ابن رشد فيما يفترض أنه تلخيص لكلام أرسطو :" يجب أن تكون أجزاء صناعة المديح ستة؛ الأقاويل الخرافية, العادات والوزن, الاعتقادات, النظر, اللحن, والدليل على ذلك أن كل قول شعري ينقسم إلى مشبه ومشبه به والذي يشبه به ثلاثة : المحاكاة, والوزن, واللحن والذي يشبه في المديح ثلاثة أيضاً العادات والاعتقادات والنظر “ الاستدلال “ بصواب الاعتقاد فتكون أجزاء صناعة المديح بالضرورة ستة وقال ابن رشد إنها لا تطبق على الشعر العربي ولا توجد فيه إنما نجدها في كتب الوعظ والقصص الشعرية وهي إشارة خطيرة من ابن رشد وذلك لاطلاعة على الشعر اليوناني القديم.
فقد وجد الفضيلة في الملاحم وضرب نموذجاً بقصة سيدنا يوسف وزوجه العزيز زليخة فهي تحض على الفعل الإنساني الخير وتكشف الجانب السئ في الإنسان إلا أن هذا حدث في العصر الحديث في دراسة القصة لذا لم يستفيد النقد الأدبي القديم من هذه الآراء.
فكرة التطهير :
أدرك ابن رشد فكرة التطهير من خلال ما يمكن أن تثيرة المحاكاة “ من الرحمة والخوف “ وقد ذهب إلى أن التطهير يتم بمحاكاة النفوس لما في الفاضلين من نقاء قال في تعريف للماسأة “ المديح “ أنها محاكاه للعمل الأرادي الفاضل الكامل وأن غايتها التطهير كما يقول محمد غنيمي هلال لأن تعتدل هذه الأنفعالات في الإنسان دون أن تمحى وفي هذا تكمن القيم الأخلاقية للانفعالات التي تثيرها فينا المسرحيات والغاية خلقية ودينية وهي الحث على الفضائل الخلقية من خلال مشاعر الحزن التي تعتري الإنسان.
الصدق والكذب عند ابن رشد و علاقته بالأقاويل الشعرية :
يقول ابن رشد: إن الغلو الكاذب من ضروب المحاكاة ولكنه يحمل كذب ليس فيه صدق “ ثم يضيف الغلو الكاذب يوجد في أشعار العرب كثيراً ولا يوجد مثله في الكتاب العزيز إذا كان ينزل من هذا الجنس من القول “ يعني الشعر “ منزله الكلام السفسطائي من البرهان ولكن قد يوجد بالمطبوع من الشعراء منه شي محمود لكن المعضلة أنه جعل الخيال محاكاة لأنه حاول فهم أرسطو من خلال أفلاطون.
الوحدة الموضعية :
تحدث ابن رشد عن الوحدة الموضعية وحاول أن يفهم فكرة العقدة والحل وقال إن العقدة في الشعر العربي تسمى بالرباط “ البنية “ كالنسيب والوصف أوالمديح ثم حاول أن يفهم الحل وقال إن الحل نوع من الرباط يستخدمه العرب بكثرة في أشعارهم وهو ربط النسيب بالمديح كقول أبي الطيب .
مرت بنا بين تربتها فقلت لـــها من أين جانس هذا الشاد العربـــا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ليث الشرى, وهو من عجل إذا انتسبا
وأما الحل فهو موجود في أشعار العرب مثل قول زهير “ دع ذا وعد القول في هرم “ والحل هو الإنتباه إلى الإنتقال المفاجئ
أسباب ميل الفلاسفة و النفاد و المسلمين إلى مفهوم أفلاطون
كان افلاطون أقرب إلى أفكار العرب لأنه أقرب إلى أشعارهم لأنهم ربطو القرابة بطبيعة النظرة إلى الفن الشعري, ولأن نظرتهم إلى الفن الشعري مطابقة لنظرته على الرغم من اختلاف أحكامهم الفنية المستنبطة من هذه النظرة.
ومهما يكن فإن هناك ثلاثة أمور عضدت اتجاه النقد الفلسفي إلى محاكاة أفلاطون وهي غلبة الشعر الغنائي, وأجلال الشعر الجاهلي, وربط الشعر بالفنون النفعية عموماً و بالتصوير خصوصاً.
غلبة الشعر : الشعر الغنائي :
هو شعر يعبر عن أحاسيس الشاعر ولا يتناول قضايا المجتمع إلا ما قل، دائماً نضع نقيض له الشعر الملحمي.
كان لغلبة الشعر الغنائي عند العرب أثراً كبيراً مما أدى إلى عدم فهمهم للنقد اليوناني عامة وللأرسطي خصوصاً. وذلك لأن أرسطو وضع قواعد الشعر الموضعي الّذي تولد عن الشعر الغنائي, ويقول “ إن من كانوا مجبولين عليها منذ البدء – و يقصد المحاكاة – أخذوا يرقون بها قليلاً قليلاً حتى ولدوا الشعر من الأقوال المرتجلة ثم أنقسم الشعر تبعاً لا ختلاف الأفراد من قائليه.
فضل أفلاطون الشعر الغنائي لأنه يحتوي على غاية خلقية وهي التغني بالبطولات. أما أرسطو فقد أعرض عنه لأنه يعتبر الفعل جوهر المحاكاة, لذلك لم يدخله في قضاياه الأدبية .
أما النقاد العرب فقد وجدوا أن الشعر الغنابي ينشد الفردية وكذلك شعرهم فهو يتغنى بالذات وذلك تبعاً للنزعة الفردية الطاغية, فهم يرون أن الشعر هو مرآة تعكس الشعور الفردي وما على الشاعر إلا أن يرغب أو يطرب أو يرهب لكي يتدفق بما يخاله من مشاعر – فليس هنالك مجال لعناصر الشعر المسرحي" التحول – التعرف - العقدة – الحل “ والدليل على ذلك أن ابن رشد عندما حاول تطبيق التطهير قال ذلك لا يوجد إلا في القصص القرآن وما جاء عند زهير في معلقته داعية السلام جاء عرضاً وأنه لم يخرج عن النمط السائد، بل إن الشاعر العربي قد اغفل فيما بعد الاهتمام بذاته لينتقل إلى الاهتمام بالتقليد في أمرين: أولهما تقليد الأشياء الظاهرة في الطبيعة، وثانيهما تقليد الأنماط الظاهرة في الفن وبذلك ضاقت أمامه سبل الخيال الشعري فراح يدور في فلك التشبيه، فهو الفن الّذي كان سائداً.
أجلال الشعر الجاهلي :
نعم الشعر الجاهلي بالإجلال عند النقاد العرب ويرجع ذلك كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي “إلى أن النقد العربي ابتلى منذ عهد مبكر بعلماء اللغة الذين كانوا يجلون الشعر الجاهلي إجلالاً عظيماً لأنه مصدر علومهم الوحيد تقريباً, فلم يأبهوا للمعاني الإنسانية فيه ويقول عن ذلك :” والشي المؤلم حقاً أن الشعر دخل منذ البداية في باب علوم العربية لأنه كان يدرس لاستخلاص الشواهد النحوية والصرفية واللغوية فوجدت هوة هائلة بين علماء العربية وبين علماء الثقافة الإنسانية” وإن الشعر الجاهلي يمثل النشأ الأولى للشعر العربي ويقول الدكتور مصطفى ناصف “ نشأ الأدب العربي من الأدب الجاهلي, وإن الأدب العربي ينبع من الأدب الجاهلي ويصب أحياناً في تربة الأدب الجاهلي أيضاً “ فالشعر هو رمز ذواتهم ورمز حضارتهم وأي مساس به هو مساس بالحضارة نفسها.
وقد نظر النقاد العرب إلى الشعر الجاهلي نظرة محاكاة والأنموذج الّذي يجب أن يحتذيه الشعراء وإلا تعرضوا للنقد. ويقول عن ذلك الدكتور مصطفى ناصف: " ليس منا من لا يذكر فكره عمود الشعر, فقد كان عمود الشعر عندهم يشبه عمود الدين والحياد عنه بدعه من البدع, أوضلال ينبغي أن يتناول بالكراهة"
والمسلم به إذن ذلك الأثر الطاغي الذي طبع به الشعر الجاهلي الشعر العربي وإن ما ينطوي عليه الشعر الجاهلي من طابع حسي, جزئي ظاهري لا يأبه غالباً للفكر الإنساني ولا يحاول النفاذ إلى جوهر الظواهر المرئية.
ندرك كيف تأثر النقاد العرب بآراء أفلاطون وأخلدوا إلى مفهومه في طبيعة المحاكاة وكان ذلك وراء جفاف النقد وجمودة على طريقة واحدة هي الطريقة الجاهلية في فهم الشعر.
ينبغي أن نذكر هنا أن النقاد قديماً أحجموا تماماً عن الإصغاء إلى الشعر المحدث مهما بلغ من الإبداع وتروى في ذلك حكايات طريفة منها قول أبي عمر بن العلاء حين أعجبه بعض شعر جرير:" لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته" وقال الأصمعي:" جلست إليه ثماني حجج – يعني أبا عمر بن العلاء- فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فمن عندهم، وليس النمط واحداً، ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح" ويقولشوقي:" إنما جاءتهم هذه العصبية من وظيفتهم، فقد كانوا يعدون أنفسهم حماة اللغة، والحرس على تراثها، ولم يكن يهمهم من الشعر إلا المثل والشاهد في دراستهم".
ربط الشعر بالفنون عامة والتصوير خاصة :
ثمة عامل وجهه أذهان النفاد إلى مفهوم أفلاطون وحال دون إدراكهم لمفهوم أرسطوا، وهو العلاقة بين الشعر والفنون الأخرى وقد ذهب أرسطوا إلى أن الفنون جميعاً تحاكي جوهر الأشياء وإن اختلفت في وسائلها.
إلا أنهم جعلوا الشعر كالتصوير واغلفوا الرقص والموسيقى وذلك لإجلالهم فن التصوير أو إلى غموض الصلة بين الشعر والموسيقا في أذهانهم، فقد يرجع ذلك إلى بيئتهم وأسهامها في غموض هذه الصلة لأن النقاد يتكلمون عن التصوير من خلال النسج والنقش, والصياغة والتجارة وهي كلها فنون مرئية, و يقصدون بها ربط الشعر بالفنون وغاب عنهم ربطه بالموسيقى التي تتسرب بايحائها إلى الشعور, بينما يفتن التصوير مجال العين المرئي وخاصة إذا اقترن بالمادة المشكلة كالخاتمة والثوب وذلك يفضي إلى إثار اللفظ على المعنى.
من هنا بدأ انصراف النقاد إلى فرضية أن التصوير أنما يظهر في اللفظ أي الشكل دون المعنى ثم أصبح اللفظ مناط الجهد ومجلى الفن لأن النقاد يرون أن الشعر فن يرجع إلى اللغة لا إلى الإنسان.
وقد أولع النقاد بعقد الصلة بين فن الشعر وفن التصوير ويقول الجاحظ:" إن الشعر “ صناعة أوصياغة “ وضرب من النسيج وجنس من التصوير وربما أشار ذلك إلى تغليب اللفظ على المعنى ويرجع شوقي ضيف الأسلوب لا الألفاظ. والذي يعنينا هنا هو ربط الشعر بالنسج والتصوير على نحو أصبح فيما بعد حجة النقاد على اختلاف مذاهبهم. ويقول قدامه:“ إن المعاني للشعر بمنزلة المادة المصنوعة مثل الخشب للنجار والفضة للصياغة “ أما ابن سنان الحفاجي فقد أضفى على المقارنة صيغة فلسفية وقصرها على فن النجارة, وقد نبه عبد القاهر إلى أنه الأمر لايرجع إلى المعنى ولا إلى اللفظ بل إلى النظم .
ويلاحظ أنهم لم يكونو يريدون بالتصوير فنون النحت والرسم وإنما يريدون تلك الفنون العملية النفعية القائمة على الزخرفه والتجانس بين الأشكال والألوان والرسم على نحو ما يكون فيه للبصر المقام الأول وسواء كان النقد خاضعاً في ذلك للشعر أم موجهاً له فقد أفضى ذلك إلى جمود الشعر حول المفهوم الحسي المرئي للمحاكاة. وربما قيل إن علاقة الشعر بالتصوير لا تفضي بالضرورة إلى المفهوم الحسي الذي يقصر الخيال على الصنعة الزخرفيه.
ومن هنا ينبغي لنا أن نتذكر أن معظم ما دار في كلام النقاد حول التصوير والتخييل إنما يرجع إلى مفهوم التشبيه فالتشبيه عندهم هو روح الشعر.
مفهوم المحاكاة عند النقاد العرب
المحاكاة و التشبيه :
لا يخفي أن الفهم الذي وصل إلى أذهان النقاد العرب هو ربط المحاكاه بالتشبيه نتيجة لغنائية الشعر. وإذا وجدنا الترجمة الحرفية لكتاب أرسطوا “ فن الشعر “ نجد أن المحاكاة هي التشبيه عند الفارابي و ابن رشد ثم انتقل هذا الفهم إلى أذهان النقاد والعرب.
الزمخشري :
هذا الفهم نجده عند الزمخشري في “ كتابه الكشاف” وهو دراسة القرآن دراسة بيانية إلا أن هنالك بعض الآيات قد استعصت عليه فأولها عبر فهمه وقد وقف عند الآيات نحو قوله تعالى:﴿ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا﴾ قال الزمخشري معنى ذلك “ أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته, ووحدانيته, وشهدت بها عقولهم, وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلنا مخيرة بين الضلالة والهدى “ ويرى الدكتور مصطفى ناصف:“ أن صعوبة وجود حدى المجاز في بعض الآيات، هي التي قادة الزمخشري إلى تعبير التخييل الّذي يجرد ظاهر الآيات من تجسيم مادي، ويردها إلى معنى عقلي، فالتخييل إذن هو تصوير حسي لمعنى ذهني، أوإذا كان كناية لم يجد ما كني عنه وما هي العلاقة، إذاً على الأنسان إعمال ذهنه وخياله لإدراك المعنى.
ونفهم من هذا أن الزمخشري يبحث عن مشبه ومشبه به في الكلام وهذا هو الأسلوب النقدي، هو أحد النقاد الذين اتبعوا النهج الإسلوب للنقد في دراستهم للنصوص في فترة مبكرة.
قدامة بن جعفر :
جعل قدامى بن جعفر من المحاكاة وصف ويقول:" الوصف إنما هو ذكر الشي كما فيه من الأحوال والهيئات, ولما كان أكثر وصف الشعراء, إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها ثم بأظهرها فيه, وأولاها حتى يحكيه بشعره و يمثله للحس بنعته “ فواضح أن قدامة لا يقتصر على جعل الوصف محاكاة للمعاني التي يتألف منها الشيء الموصوف فحسب، وإنما جعله محاكاة حسية أيضاً.
عبد القاهر الجرجاني :
فهو يجعل من المحاكاة تشبيه ثم يصبح التشبيه عنده هو المعنى الكامن في مختلف المصطلحات التي يوردها مثل التمثيل, التخيل, التأويل، القياس كما يظهر في شرحة لهذا البيت الذي جعله مثلاً للتمثيل يقول:
كأن النجوم بين دجاه سنن لاح بينهن ابتداع
يقول في شرح ذلك:" إن تشبيه السنن بالنجوم تمثيل والشبه عقلي وكذلك تشبيه خلافها من البدع والضلال بالظلمة ثم أنه عكس فشبه النجوم بالسنن كما فعل فيما مضى من مشاهدات وإنما يقصد بالتشبيه في هذا الضرب ما تقدم من الأحكام المتأولة من طريق المقتضى. ويقصد من أراد أن يفهم هذا البيت فعليه, تؤل السنة طريق الهداية بالنور والبدعة طريق الضلال فهي الظلمة. فصار تشبيه النجوم بين الدجى، بالسنن بين البدع على قياس تشبيههم النجوم في الظلام، ببياض الشيب في سواد الشباب" وهكذا فهم عبد القاهر أن المحاكاة هي التشبيه.
حازم القرطاجي :
هو الذي تبنى الفكر اليونان في كثير من أرائية النقدية حتى أصبح ممثلاً للفكر اليوناني في النقد العربي ولكن رغم ذلك لم يخرج من فهم المحاكاة بأنها التشبيه ويتضح ذلك في معرض حديثة عن التناسب بين المعاني كقوله:“ وما جُعل فيه أحد المتناسبين على هذه الصفه مثلاً للأخر ومحاكيا له, فهو تشبيه". “ وتنقسم المحاكاة على على جهة ما تكون مترددة على السن الشعراء قديما بالعهد ومن جهة ما تكون طارئة مبتدعة لم يتقدم بها عهد قسمين :
القسم الأول : هو التشبيه المتداول بين الناس, والقسم الثاني : هو التشبيه الذي يقال فيه : إنه مخترع وهذا أشد تحريكا للنفوس إذا قدرنا تساوي قوة التخيل في المعنيين “ فهو يجعل المحاكاة تشبيه والمحاكيات تشبيهات فكأن التشبيه هو الفلك الّذي تدور فيه المعاني النقد جميعها.
المحاكاة و الزخرفة :
الزخرفة هي فن الشكل ومعناها العميق, وهي من وحي الخيال لأن الإسلام منع الفنانين المسلمين من تجسيم الأشياء لذلك أستوحى الفنان شكل الزخرف الإسلامية وهو فن خالص للمسلمين فقط وقد أسماه الغربيون “ فن الحرية المطلقة “ لأنه اطلاق لخيالات الفنان, ولعل أفلاطون أول من قدم الفنان على المصلحة “ كان يقول: إن الفن ضرب من اللهو واللعب وأول لعب الإنسان كان فناً. فهو يحاول الربط بين الفن واللهو و قال إن الفنون نوع من اللهو الجميل. وهذه النظرية أرادت أن تحد خيال الفنان من قيود المعنى الذي يعبر عنه وهمه في ذلك تقديم صورة رائعة وجميلة.
العلاقة فلسفة بالجمال بين “كانط” و النقاد:
إذا كان كانط يرى أن فن الجمال متمثلاً في الشكل فإن المسلمين فهموا أن الجمال يتمثل في شكل المحض دون ربطه بالمعنى وقد طرح كانط هذه الفكار بغية تحرير خياله من قيود المعنى، أما المسلمون فقد جعلوا الجمال متمثل في الشكل ولكنهم قيدوه بقيود العراف اللغوية والأدبية والاجتماعية لا بقيد المعنى وهذا الإطار يجب الإتزام به ويجب لا يخرج عنه وهذا ينطبق على فن المحاكاة في الشعر، لذا فالزخرفة لا تشبه الشعر، والزخرفة هي فن الإلهام وهي مجردة من محاكاة الأشكال الطبيعية وهي قمة الإبداع الفني لأنها لا تقيد بقيود. وهكذا أصبحت الزخرف فن موسيقا الشكل بينما التشبيه هو فن تصوير الشكل، ولا شك أن أثر العامل الديني ظاهر هنا، لأن ما أُثر عن تحريم تصوير الأشكال الحية هو الذس أفضى بالفن الإسلامي إلى المثالية والتجريد والرمز وهي الأمور التي حرم منها فن التشبيه، والغريب العامل الديني الّذي منحة الزخرفة صبغة روحانية مجردة، لم يمنح الشعر هذه الصبغة، ومن ثمة فقد أُتيح لفن الزخرفة من التطور ما حرم منه فن الشعر، ولو أُتيح له ذلك لاقترب فن التشبيه شيئاً فشيئاً من فن الموسيقا.
المحاكاة عند حازم القرطباني :
مفهوم المحاكاة :
حازم القرطباني هو أحد النقاد العرب الذين تأثروا بالفكر اليوناني ويعد حازم القرطباني المترجم الحقيقي للفكر اليوناني، لذا نجد كثيراً من الدراسات الحديثة اهتمت بكتابه منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ولأنهم يروا أنه يحتوى على أفكار النقد اليوناني.
تحدث حازم عن مجموعة قضايا كقضية المحاكاة وكان حديثة عن طبيعتها إلا أنه لم يأتِ بجديد لكن حاول تطبيق هذه الأفكار ووصل إلى ملاحظة قيمة هي أن المحاكاة عند اليونان تقوم على الفعل وعند العرب تقوم على الشكل الظاهري وحاول تطبيق التطهير وفهم بأنه سعي المحاكاة لا يثارة المتلقي وهذا مفهوم أرسطو، وتحدث بعد ذلك عن التنقيح والتحسين وبذلك انتعد كثيراً عن مفهوم أرسطو وكان فهمه للمحاكاة كالنقاد أنها تشبيه لأنها لا تحاكي الفعل الانساني وإنما تحاكي الأشياء .
ويقولون إنه تأثر بما وجده عند الفارابي وابن سينا وهو يصرح في كتابه الّذي أورد فيه هذا النص “ هذا هو تلخيص القدر الذي وجده عند المعلم الأول وقد بقي منه شطر صالح لايبعد أن نجتهد نحن فنبدع في علم الشعربحسب هذا الزمان كلاماً شديد التحصيل والتفصيل" وهو يقصد أرسطو بقوله إجتهاده لقوانين الشعر بحسب الزمان والمكان. إذن مفهومه يقوم على ترجمة أفكار ابن سيناء والفارابي.
طبيعة المحاكاة والوضوح والغموض :
يقول إن الشئ حاكى شيء فهذا يتطلب الوضوح وقد قسم المحاكاة إلى ما يحاكي في نفس بالوصف وما يحاكى غيره بالتشبيه وليس هناك فارق بينهما إلا في كون الوصف مباشر والتشبيه غير مباشر أوالوصف يتناول الشي بدون واسطة و التشبيه يتناوله من خلال مقارنته بشي آخر. ومن خلال ذلك يبدوا أنه تأثر بالفارابي في حديثه عن صورة التمثال والمرآة، وتأثر بابن سيناء في المحاكاة باليد قد يمثل صورة الشي نحتاً وخطاً فتعرف المصور بالصورة وقد تأخذ مرآة يبدوا لك بها إنسان الصورة فتعرفه على هذه الصورة يخيل لك الشاعر صورة الشي بصفاته نفسها وتارة يخيلها لك بصفات شي آخر هي مماثلة لصفات ذلك الشي وذلك نتيجة لما وجده عند الفارابي وابن سيناء وأن ترجمته لم تكن ترجمة كاملة وقد أدرك أن الفهم اليوناني لا يحكي سوى ما كان في القرآن الكريم لأنه يحاكي الفعل الأنساني و يسعى لتطهيره، ومن هنا نفهم أن حازماً يربط المحاكاة بالتشبيه ولا يستطيع أن يتخلص من الاعتقاد السائد في نفسه بل كان أكثر تشدد في ربط المحاكاة بالتشبيه.
ربط المحاكاة بالتشبيه بالوضوح :
ينبغي أن ننظر إلى المحاكاة التشبيهيه من جهات: من جهة الوجود والفرض وهنا تكون المحاكاة بأمر موجود لامفروض, ومن جهة الأدراك ينبغي أن تكون المحاكاة في الأمور المحسة حيث تساعد المكنة الوجوه المختارة بالأمور المحسة، وبها يحسن أن تحاكي الأمور غير المحسة حتى يأتي بذلك ويكون بين المعنيين انتساب، ومحاكاة المحس بغير المحس قبيحة" وفي هذا يتفق مع فهم الفكر اليوناني “ أرسطو” محاكاة الكائن وما يجب أن يكون.
يقول إن الأشياء منها ما يدرك بالحس ومنها ما ليس إدراكه بالحس والذي يدركه الإنسان بالحس فهو الذي تتقبله نفسه لأن التخييل تابع للحس وكل ما أدركته بغير الحس فإنما يرام تخييله بما يكون دليلاً على حالة من هيئات المطيفة به واللازمة له حيث تكون تلك الأحوال مما يحس ويشاهد فيكون تخييل الشي من الأثر والأحوال اللازمة له حالة وجوده. فالقصة, و الزخرفة تخييل و فن الرواية العربية تحاكي الفعل الإنساني و بالتالي تمثل الملحمةالحديث للعرب.
الإغراب في الشعر ومطالبة الشاعر بالوضوع :
قرن حازم المحاكاة بالإغراب، وجعل ذلك مما يلائم النفس، وقد أورد ذلك في تعريفه للشعر، وقد ظهر في حديثه أنه يؤثر كا ما هو مألوف أو يفضل قرب التشبيه، وعلى ضوء ذلك قسم التشبيه إلى متداول ومخترع، ويقول المخترع أشد تحريكاً للنفس إذا قدرنا تساوي قوة النخييل في المعنيين لأنها آنست بالمعتاد, فربما قل تأثيرها له وغير المعتاد يفجؤها بما لم يكن به استئناس لأن النفس تميل إلى الشي الغريب أي بالنفور عنه أوالاستعصاء عليه وذلك لجماله أوقبحه. إذن الإغرب في مفهومه مربوط بالتشبيه وهو لا يقوم على الغموض, وهنا يقترب حاوزم من عبد القاهر الجرجاني في مفهمه “ للتعجيب والتغريب“
المحاكاة بين الصدق و الكذب :
ولعل الذي جعل حازم في طليعة النقاد الذين ترجموا الفكر اليوناني فكرته عن مفهوم الصدق والكذب فهو لم يجعل الشعر صدقاً ولا كذباً وإنما المهم فيه عنصر التخييل أي المحاكاة “
كيف فهم هذا الفهم وهل حاول أن يطبقه؟ يقول إن قوام الشعر ليس الصدق أوالكذب وإنما التخييل, والشاعر قد يخيل ما هو صادق وقد يخيل ما هو كاذب ولا يكون شاعراً باعتبار ما يخيله وإنما يكون شاعراً باعتبار قدرته على التخييل، والتخييل ينظر إلى الشي نظرة الفن لا نظرة الخلق, وإذا ما أجاد تصوير الشي ولم يبال أن يكون عذا الشي صادقا أم كاذبا، فالتخييل هو المطلوب في الشعر وهو والمعتبر في صناعته، لا كون القاويل صادقة أو كاذبة.
ويقول أفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيئته وقويت شهرته أوصدقة أوخفي كذبه وقامت غرابته وإن كان قد يُعدُّ حذقاً للشاعر اقتداره على ترويج الكذب وتمويهه على النفس واعجالها إلى التأثر له قبل بأعمالها الروية فيما هو عليه. فهذا يرجع إلى الشاعر وشدة تخيلة في إيقاع الدلسة للنفس في الكلام.
إذن حازم سعى لدرء تهمة الكذب عن الشعر؛ أي “ أعذب الشعر أكذبه “ وهو يصرح بأن دفاعه عن الأقاويل الصادق في الشعر إنما يرجع إلى رغبته في رد القول السابق، فيظن أن التشبيه والمحاكاة من جملة كذب الشعر. وليس كذلك لأن الشي إذا اشبه الشي فتشبيهه به صادق لأن المشبه مخبر أن شيئاً أشبه شيئا وهو بلا شك الصدق. فتبين أن الوصف والمحاكاة لا يقع الكذب فيهما إلا بالافراط وترك الاقتصاد.
لقد خلص حازم إلى أن من يقول أن مقدمات الشعر لا تكون إلا كاذبة فهو كاذب ومثله من قصر الشعر على الكذب مع أن الصدق أنجع فيه إذا وافق الغرض، ويقول عن الصدق:" ما وقع من الوصاف والمحاكاة مقتصداً فيه، غير متجاوز، فهو قول صادق".
وحدة الموضوع ونظام القصيد عند حازم :
يبدوا أن النقاد العرب قد شغلوا بوحدة الموضوع التي تحدث عنها أرسطو وحاول الفلاسفه من قبلهم ترجمتها و روابطها بالوحدة ونظام القصيدة.
لم تجد لحازم رأياً يخالفهم من حيث الفكرة فهو سار على نهج من سبقوه في وحدة الموضوع نظام القصيدة– والذي يبدو أنه حاول الاعتماد على الفكر اليوناني – ولكن ترجمته كانت ترجمة فكرية لم تتعمق مفهوم الفكر اليوناني.
فكرته في وحدة الموضوع :
يرى حازم أن الشيء يجب أن يحاكى بحسب ترتيب أجزائه، فتكون محاكاته بالقول كمحاكاته بالرسم من حيث ترتيب أجزائه على ما هي عليه في الطبيعة وهذا يعني أن القصيدة تشبه الحيوان فإذا أرادنا رسمه فعلينا أن نرسمه كاملاً منظوماً. وبهذا فقد كررما قاله لكن بطريقة أخرى, ثم تحدث عن تعدد الموضوعات؛ من وقوف على الأطلال ثم الوصف وهو يرى أن هذا التعدد شيء جميل لأنه يرى أن القصيدة إذا أُفرقت في قالب واحد كان ذلك أدعى إلى السأم والملل لأن التعدد يجدد الإحساس بالقصيدة، وهذا تقليد لأرسطو. ولعل الغريب في فكره أنه لم يتحدث عن الموضوعات فقط وإنما اتخذ من هذا نهجاً يدعو الشعراء إليه ويحدد لهم ماذا يقولون في المديح والهجاء؛ أي في الغرض الذي يريدون أن يكتبوا فيه، ثم تحدث عن ظاهرة الانتقال من غرض إلى غرض وسمى ذلك طرق الاحتيال في جمع طرفي القصيدة؛ أي القول على نحو محكم لا يختل به نظام القصيدة. ثم وضح أن طرق احتيال تنقسم إلى أقسام منها 1- التدرج في الانتقال بما يمت إلى الغرض الأول بسبب (حسن التخلص) 2-الثاني هو الانتقال المفاجئ من غير مقدمة سواء بموافقته أوبمناقضته أما على سبيل التشبيه أوالمحاكاة وأما بالاضراب عن مقصد والاعتداد بالآخر. ثم بدأ بوضع نظام للقصيدة مطلعها ونهايتها. ويقول يجب أن تكون البداية جزلة حسنة المسموع والمضمون دالة على غرض الكلام و جيزة تامة.
ثم في حديثة عن الموضوع تحدث عن الأغراض كالمديح والهجاء والتناسب بين المقدمة والغرض الذي من أجله أنشأ الشاعر القصيدة ويبدو أن كلامه يناقض ما قاله عن مفهوم المحاكاة “ إن المحاكاة هي التخييل ولم يترك مساحة للتخييل بل قيده بمجموعة من التفاصيل والقوانين. فقد اختار مثلاً في المديح قواعد لمدح الوزير أوالخليفة، وهنا نجده خالف فكرته لأنه قال لا يقوم الشعرعلى الصدق أوالكذب بل يقوم على التخييل ومن هنا نفهم أنه أحال الشعر من العاطفة إلى العقل.
الطبع والتطبع :
إذا كان حازم يؤكد قوة التخييل في فهمه للمحاكاة كان عليه أن يقف بجانب الشاعر المطبوع لأن الشاعر يعبر عن قوة تخييله للموضوعات ويكون صادقاً فيما يعبر عنه أما التصنع فهو صنع الشاعر إحاسيس يكتب فيها شعراً يجاري به الشاعر المطبوع، وهو شعر يفتقد الصدق والإحساس وقوة التخييل ويلحظ في حديثه عن الشعر المطبوع والمصطنع أنه يساوي بينهما وخاصة إذا أجاد الذي يصطنع الطبع فينزله منزلة الشاعر المطبوع وهنا يخالف ما أورده في أمثلته السابقة.
إن الذي دفع حازم أن يدخل في هذا التناقض أنه عندما أراد أن يحدث عن وحدة الموضوع إما يكون هذا التناقض ناشي من عدم إستيعابه للفكر اليوناني تاماً أو أنه استوعبه و لم يتقبله أويعود إلى تأثره بالنقاد الذين سبقوه، فهو يردد آراءهم بعيداً عن الفكر اليوناني، لكن ماقدمه حازم يعد ثمرة استطاع أن يطبق المناهج النظرية السابقة.

و الله ولي التوفيق